الاحتفال بألوان البديع واستظهارها فى أشعاره، ولكن حين نقرن أى لون عنده إلى أصله عند أبى تمام سنجد مفارق واسعة، فأبو تمام مثلا يجنح إلى استخدام نوافر الأضداد فى أسعاره كما مر بنا فى كتاب العصر العباسى الأول، ولم يكن البحترى يستطيع أن يتعمق هذا التعمق ولذلك نراه يكتفى بالطباق بحيث إذا ذكر الوصل مثلا ذكر معه الهجر، وإذا ذكر الذل ذكر معه الكبر، وإذا ذكرت السهولة ذكرت معها الوعورة، وإذا ذكرت الحرية ذكرت معها العبودية. ولون آخر يتعمقه أبو تمام هو الاستعارة على نحو ما مر بنا أيضا فى حديثنا عن العصر العباسى الأول، ولم يكن البحترى يتعمق هذا اللون تعمقا من شأنه أن يبعده عن الذوق القديم، ولذلك كله قال النقاد إنه يحافظ على عمود الشعر العربى (١)، يريدون محافظته على أصوله الموروثة، ومن تتمة ذلك عنده أنه لم يكن يكثر من ألوان البديع إكثار أبى تمام، ولا كان يستطيع أن يتغلغل فى دقائق الفكر والأخيلة على نحو ما كان يتغلغل أبو تمام بحكم ثقافته الفلسفية ومواردها التى لا تنضب فى أشعاره، ولذلك كان يشيع فى أشعاره الغموض، مما جعل القدماء يختلفون فى فهم كثير من أبياته وتفسيرها وتأويلها، لكثرة ما توحى به من معان، وهو اختلاف لا يضيع منك هباء، بل إنك تجد فى أثنائه ما يشبه أقواس قزح ممتدة فى أشعاره، وهى أقواس بهيجة، تزهى بالفكر العميق والخيال الواهم البعيد.
ولكن إذا كان البحترى لم يستطع أن يحقق لنفسه هذا المدى الرائع من الشعر والفن، بسبب ضعف ثقافته الفلسفية، فإنه استطاع أن يحقق لنفسه مدى مقابلا لا يقل روعة، وهو مدى الجمال الصوتى البديع، بحيث استطاع أن يرتفع باصطفاء الكلمات والملاءمة بينها فى الجرس! بل بين حروفها وحركاتها ملاءمة رفعته إلى مرتبة موسيقية لم يلحقه فيها سابق ولا لا حق، وكأنما كانت له أذن داخلية مرهفة، تقيس كل حرف وكل حركة وكل ذبذبة صوتية، فإذا به ينظم شعرا مصفى مروّقا، شعرا يلذ الألسنة والآذان والأذهان لذة لا تعادلها لذة. وقد وقفنا طويلا عند هذا الجانب فى الفصل الثانى من كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» وأوضحنا مدى مشاكلته بين أصوات الألفاظ والقوافى فى بعض القصائد وموضوعاتها كما أوضحنا