للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مدى التوافق الصوتى عنده بين الحروف والكلمات والحركات والسكنات، وكأنما أعطت الموسيقى الشعرية كل مفاتيحها وكل أسرارها للبحترى، فإذا هو يوقع على قيثارته أروع ألحان عرفتها العربية (١). وبذلك استطاع أن يتلافى بقوة قصوره الثقافى.

فإذا هو يوضع على قدم المساواة مع أبى تمام، وإذا النقاد يتقابلون فى صفّين:

صفّ يرفع أبا تمام إلى الذروة، وهم المتفلسفة ومن يعنون بالتعمق فى المعانى والأخيلة.

وصف يرفع البحترى إلى نفس المرتبة، وهم أصحاب الآذان المرهفة الذين يكبرون اللذة الصوتية، وكان ينضم إليهم طوائف من المحافظين واللغويين، وكان البحترى نفسه إذا سئل عنه وعن أبى تمام قال: جيده خير من جيدى ورديئى خير من رديئه، وهو يريد بجيد أبى تمام معانيه وأخيلته الدقيقة التى لم يكن أحد من أهل زمانه يستطيع أن يحلق فى آفاقها، أما رديئه فيريد به بعض أبياته التى يضطرب فيها اللفظ لأنه لم يكن يعنى بألفاظه وأصواته عناية البحترى:

والمديح أهم موضوع استنفد شعر البحترى، فقد عاش، كما مرّ بنا، يمدح الخلفاء العباسيين من المتوكل إلى المعتضد ووزراءهم وولاتهم وقوادهم وكتّابهم، وكأنما وقف نفسه على الإشادة بالدولة ورجالاتها، بحيث يعدّ الشاعر الرسمى لها، وكان طبيعيا لذلك أن ينتصر للعباسيين ضد خصومهم العلويين، وأن يتغنى بذلك فى أشعاره، حتى يثبت ولاءه لهم وأنه يقف فى صفوفهم مدافعا عنهم مناضلا بمثل قوله للمتوكل (٢):

شرفا بنى العباس إن أباكم ... عمّ النبىّ وعيصه المتفرّع

إن الفضيلة للذى استسقى به ... عمر وشفّع إذ غدا يستشفع

وأرى الخلافة وهى أعظم رتبة ... حقّا لكم ووراثة ما تنزع

أعطاكموها الله عن علم بكم ... والله يعطى من يشاء ويمنع

فالعباس جد العباسيين وعم الرسول صلى الله عليه وسلم من العيص ومنبت الشجر الضخم، يريد أنه من الأصول بينما على بن أبى طالب من الفروع، ويستدل على


(١) الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة السابعة-نشر دار المعارف) ص ٧٧ وما بعدها.
(٢) الديوان ٢/ ١٣١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>