للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيه منحى السخرية والإضحاك، وهو اللون الأهم فى هجائه، لأن اللون السابق كثيرا ما نجده عند سابقيه ومعاصريه، أما الهجاء الساخر فقد نمّاه إلى أبعد حد تسعفه فى ذلك قدرة بارعة على استغلال العيوب الجسدية فى مهجويّه، حتى ليصبح شبيها أدق الشبه بأصحاب الصور الكاريكاتورية، فهم يستغلون العيوب الخلقية ويبرزونها بالطول أو بالعرض أو بالتضخيم أو بالتصغير إبرازا مضحكا فى كل صوره، وكذلك كان ابن الرومى هجّاء ساخرا يعرف كيف يصور العيوب الجسدية والمعنوية تصويرا مضحكا، ومرّ بنا فى الفصل الماضى تصويره لشحّ عيسى بن موسى بن المتوكل وأنه لو استطاع لتنفس من منخر واحد أو فتحة واحدة من فتحتى أنفه بخلا وحرصا، وكذلك تصويره لبعض مهجويه بحيوانات مجترة، ولم يعجبه بعض المغنين فصوّره فى تحرك فكّيه بالغناء بالبغل حين يحرك فكيه لأكل طعامه. ومرّ بنا أنه كانت تؤذيه إيذاء شديدا رؤية جار له أحدب، وانتقم لنفسه منه بقوله فيه (١):

قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنّه متربّص أن يصفعا

وكأنما صفعت قفاه مرّة ... وأحسّ ثانية لها فتجمّعا

فجعله الدهر مصفوعا يحاول أن يتقى صفعه بتجميع قفاه إلى ظهره، وكانت تؤذيه اللخى حين تخرج عن مقدارها الطبيعى فيهجوها ويهجو أصحابها هجاء ساخرا مضحكا، وله فيها مقطوعات هزلية قصيرة وطويلة، ومن أطرفها وأجمعها للهزؤ والسخرية قوله فى لحية بعض مهجويّه (٢):

إن تطل لحية عليك وتعرض ... فالمخالى معروفة للحمير

علّق الله فى عذاريك مخلا ... ة ولكنها بغير شعير

أرع منها الموسى فإنك منها ... يشهد الله فى أثام كبير

ما تلقّاك كوسج قطّ إلا ... جرّر الله أيما تجوير

لحية أهملت فطالت وفاضت ... فإليها تشير كفّ المشير


(١) الديوان ص ١٤٦
(٢) ديوان المعانى للعسكرى ١/ ٢١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>