للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واشتهر بإكثاره من وصف ألوان الطعام والفاكهة، وقد ذكرنا له فى الفصل الماضى قطعا مختلفة فى وصف دجاج مشوىّ ومرققات وقطائف وعنب رازقى، وديوانه زاخر بأمثالها، وهى أثر من آثار نهمه فى الطعام، وأيضا من آثار براعته فى وصف كل ما يشاهده ويقع عليه حسه، وله قطعة معروفة فى وصف الرّقاق وأخرى فى وصف قالى الزلابية يقول فيها (١):

كأنما زيته المقلّى حين بدا ... كالكيمياء التى قالوا ولم تصب

يلقى العجين لجينا من أنامله ... فيستحيل شبابيكا من الذهب (٢)

وهذا الجانب عنده جعله قريبا من ذوق العامة، وأدنى إلى أن يصبح شاعرا شعبيّا، ومن تتمة هذه الشعبية فيه أن نراه يصف الحمّالين والشوّائين، كما يصف الثياب البالية، وكان قد تعلق بوصفها الشاعر المعروف باسم الحمدونى، فنزع منزعه فى هذا الجانب بمثل قوله (٣):

معمّر قال نوح حين أبصره ... إنا محيوك فاسلم أيّها الطّلل

أميل فى الطّرق خوفا من مزاحمة ... تهدّه فكأنى شارب ثمل

وأكبر الظن أن هذا الجانب الشعبى هو الذى جعله يهتم بالزهاد والوعاظ، وليس فى حياته ما يصله بالوعظ والزهد، وقد ذكرنا له موعظة فى الفصل الماضى، وكأنما كان يتغنى مشاعر الشعب فى وعظه وتصويره للزهاد. وحقّا أن ديوانه يجرى فيه تشاؤم واسع، ولكن التشاؤم شئ والزهد شئ آخر، فالزهد انصراف عن الدنيا ومتاعها الزائل، والتشاؤم-وخاصة عند ابن الرومى-نقمة على فقدان المتاع بالحياة، وهى نقمة صبّت على شاعر نابه امتاز بقلب ذكى وحس مرهف وشعور دقيق، فمضى فى كثير من جوانب شعره يصور الحياة سوداء حالكة، ويتخذها هى والناس وشرورهم وطباعهم موضوعا لدرسه وشعره. وعلى نحو ما كانت لديه قدرة على وصف كل ما يقع عليه حسه بجميع جزئياته كانت لديه قدرة على النظرات الكلية الجامعة، فإذا


(١) الديوان ص ٣٧١.
(٢) اللجين: الفضة.
(٣) انظر مقطوعات أخرى فى الديوان ص ٣١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>