للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عند ابن الرومى العقاد، فقال إنه أثر من آثار وراثته اليونانية، ولكن اليونان لم يعرف عندهم شعر الطبيعة، هم ملأوها بالآلهة، ولكنهم لم يفصحوا عن مشاعرهم إزاءها على نحو ما نجد عند ابن الرومى، وأوربا نفسها فى عصرها الكلاسيكى فى أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين كانت تحاكى الآثار اليونانية، لم يعرف عندها هذا النوع من الشعر، إنما عرف فى العصر الرومانسى فى أثناء القرن التاسع عشر، حين انفكّت من محاكاة الآثار اليونانية (١). على كل حال كان ابن الرومى يشغف بالطبيعة ويكلف بها كلفا لم يعرف لشاعر قديم.

وجعلته قدرته على نقل المشاهد الحسية يبرع فى وصف مجالس الأنس وما يجرى فيها من خمر وسماع. وهو لا يتورط فى المجون والإثم تورط أبى نواس وأمثاله، وليس معنى ذلك أنه لم يكن يحتسى الخمر، فقد كان شربها شائعا فى عصره، ومرّت بنا فى غير هذا الموضع الأبيات المشهورة التى يقول فيها إن أبا حنيفة أحلّ النبيذ. ودعا الخمر فى بعض شعره ريق الدنيا، يقول:

فتى هجر الدنيا وحرّم ريقها ... وهل ريقها إلا الرّحيق المبرّد

وقد أكثر من وصف مجالس السماع، وجعله ذلك يكثر من وصف المغنين والمغنيات، وكانت أذنه مرهفة وشعوره حادّا، فإذا لم يقع المغنى أو المغنية من أذنه موقعا حسنا صبّ عليهما شواظا من هجائه، على نحو ما مرّ بنا فى هجائه لشنطف، ولعل أروع تصوير لمغنية محسنة تصويره لغناء وحيد، وكانت فتنة صوتا وحسنا، وفيها يقول (٢):

تتغنىّ كأنها لا تغنّى ... من سكون الأوصال وهى تجيد

لا تراها هناك تجحظ عين ... لك منها ولا يدرّ وريد (٣)

من هدوّ وليس فيه انقطاع ... وسجوّ وما به تبليد (٤)

مدّ فى شأو صوتها نفس كا ... ف كأنفاس عاشقيها مديد


(١) انظر فى مناقشة هذه المسألة كتابنا الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (طبع دار المعارف) ص ٢٠٨ وما بعدها.
(٢) الديوان ص ٩٨
(٣) يدر: ينتفخ ويتوتر. الوريد: عرق فى العنق.
(٤) الهدو: انخفاض الصوت. السجو: مده. التبليد: التقطع.

<<  <  ج: ص:  >  >>