للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت الطبيعة تستأثر بكل مشاعره وعواطفه، مما جعله يكلف بها كلفا شديدا، بل لقد تحوّل عاشقا لها عشقا لا نألفه عند شعراء العربية من قبله، فهو يعيش فيها مع كل حركة وكل همسة وكل وسوسة معيشة قوية حارة، معيشة محب واله، يرى الطبيعة من حوله، وقد تحولت وجوها فاتنة ناطقة، وكل شئ فيها يغريه بالنظر واللمس والشم، حتى لنحس كأنما يفنى فى الطبيعة فناء أصحاب المنزع الرومانسى الغربى، وكأنما الحجب ترفع بينه وبينها فى كل يوم فيزداد بها ولها ويزداد سرورا وغبطة، وقد عرضنا فى الفصل الماضى منظر الغروب وتجسيده لوداع الشمس للطبيعة وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة. ونكتفى هنا بأن نسوق مثلا لتصويره الربيع، يقول (١):

ورياض تخايل الأرض فيها ... خيلاء الفتاة فى الأبراد

ذات وشى تناسجته سوار ... لبقات بحوكه وغوادى (٢)

فهى تثنى على السماء ثناء ... طيّب النّشر شائعا فى البلاد

من نسيم كأن مسراه فى الأر ... واح مسرى الأرواح فى الأجساد

منظر معجب تحيّة أنف ... ريحها ريح طيّب الأولاد

تتداعى بها حمائم شتّى ... كالبواكى وكالقيان الشوادى

تتغنّى القران منهن فى الأي‍ ... ك وتبكى الفراد شجو الفراد

فالأرض تتراءى له كأنها فتاة حسناء تختال فى برود الربيع البهيجة، ووشيها الذى نسجته السحب نسجا بديعا، وهى تثنى على السماء ثناء عاطرا، والنسيم يسرى فى الأرواح سريان الأرواح فى الأجساد، وما أجمله من منظر وما أروعه من عطر للطبيعة يملأ النفس حنانا وعطفا كرائحة الأولاد النجباء، والحمائم تتناغى بين باكيات وشاديات، أما الشاديات فيتغنين لرفقائهن، وأما الباكيات فمنفردات ليس لهن قرين، وكأنهن يبكين الانفراد. والقطعة تعجّ بالحياة، بل قل إنها تعج بالحب حب شاعر أغرم بالطبيعة وملأت قلبه برّا وحنانا ومودة. ولفت هذا الجانب


(١) الديوان ص ٧٥.
(٢) تناسجته: اشتركت فى نسجه. السوارى والغوادى: نسحب.

<<  <  ج: ص:  >  >>