للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهى صورة فريدة أسعفته بها قدرته على الاستقصاء فى وصف المحسوسات، وكثيرا ما يفجأ قارئه بمثل هذه الصور النفيسة فى غزله، وكأنما تحول عقله إلى ما يشبه كنزا سائلا بالدرر، فهو لا ينى يطرف قارئه بمعنى مستحدث أو خيال مبتكر من مثل قوله (١):

لا شئ إلا وفيه أحسنه ... فالعين منه إليه تنتقل

فوائد العين منه طارفة ... كأنما أخرياتها الأول

فكل شئ وكل عضو فى صاحبته فتنة من الفتن حسنا وجمالا، فالعين ما تزال تنتقل، وكلما تركت عضوا عادت إليه مفتونة، حتى لكأنما انمحت فكرة الأول وأعقابها، فكل شئ من الأول، وكل شئ لا يكاد النظر يفرغ منه حتى يعود إلى التملىّ به. وله قافية نظمها فى جارية سوداء لممدوح له من البيت العباسى هو عبد الملك بن صالح، وفيها يقول معللا علة حسنة لسوادها:

أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حبّ القلوب والحدق

ويبدو أن بعض الجوارى عبثن به وغدرنه فى حبه ومكرن مكرا خبيثا، ولذلك نراه فى نونيته المسماة بدار البطيخ يصدر أحكاما قاسية على النساء عامة، من مثل قوله (٢):

ومن عجائب ما يمنى الرجال به ... مستضعفات لهم منهن أقران

مناضلات بنبل لا تقوم له ... كتائب التّرك يزجيهنّ خاقان

ولا يدمن على عهد لمعتقد ... أنّى وهن-كما شبّهن-بستان

يميل طورا بحمل ثم يعدمه ... ويكتسى ثم يلفى وهو عريان

يغدرن والغدر مقبوح يزيّنه ... للغاويات وللغاوين شيطان

وقد يكون دافع ابن الرومى إلى مثل هذه الأحكام القاسية على المرأة فى عصره شيوع دور القيان ببغداد وأن كثيرات من الجوارى لم تكن سيرتهن حسنة.


(١) ديوان المعانى للعسكرى ١/ ٢٣٢.
(٢) الديوان ص ٢٠ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>