للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذه الضروب الثلاثة من الشعر لم يعرفها الجاهليون، فشعرهم منظومات قصيرة قلما تجاوزت مائة بيت، وهو شعر ذاتى يمثل صاحبه وأهواءه، على حين الضروب السابقة جميعا موضوعية، فالشاعر فيها لا يتحدث عن مشاعره وأحاسيسه إنما يتحدث عن أشياء خارجة عنه، سواء حين يقص أو حين يعلّم أو حين يمثّل، فهو فى كل ذلك يغفل نفسه ولا يقف عندها، إنما يقف عند جانب قصصى تاريخى يحكيه أو علمى تهذيبى يرويه أو تمثيلى مسرحى يؤديه، متجردا عن شخصه وما يتصل بذاته وأهوائه وعواطفه.

ولكن إذا كان الشعر الجاهلى يختلف عن ضروب الشعر الغربية القصصية والتعليمية والتمثيلية، فإنه يقترب من الضرب الرابع الغنائى، لأنه يجول مثله فى مشاعر الشاعر وعواطفه، ويصوره فرحا أو حزينا. وقد وجد من قديم عند اليونان، إذ عرفوا المدح والهجاء والغزل ووصف الطبيعة والرثاء، وكان يصحب عندهم بآلة موسيقية يعزف عليها تسمى (لير (Lyre ومن ثم سموه (Lyric) أى غنائى.

وإذن فنحن لا نبعد حين نزعم أن الشعر الجاهلى جميعه غنائى، إذ يماثل الشعر الغنائى الغربى من حيث إنه ذاتى يصور نفسية الفرد وما يختلجه من عواطف وأحاسيس، سواء حين يتحمس الشاعر ويفخر أو حين يمدح ويهجو أو حين يتغزل أو يرثى أو حين يعتذر ويعاتب، أو حين يصف أى شئ مما ينبثّ حوله فى جزيرته.

وليس هذا فحسب، فهو يماثل الأصول اليونانية للشعر الغنائى الغربى من حيث إنه كان يغنى غناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون فيه، فهم يروون أن المهلهل غنىّ فى قصيدته:

طفلة ما ابنة المحلّل بيضا ... ء لعوب لذيذة فى العناق (١)

ومعنى ذلك أن الشعر الجاهلى ارتبط بالغناء عند أقدم شعرائه. ومن حين إلى حين نجد أبا الفرج الأصبهانى يشير إلى أن شاعرا جاهليّا تغنى ببعض شعره من مثل السّليك بن السّلكة (٢) وعلقمة بن عبدة الفحل والأعشى، وكان يوقّع


(١) انظر الأغانى (طبعة دار الكتب) ٥/ ٥١ وما فى البيت زائدة، وطفلة: رخصة ناعمة.
(٢) أغانى (طبعة الساسى) ١٨/ ١٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>