طرب الفؤاد وعاودت أحزانه ... وتشعّبت شعبا به أشجانه
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألّق موهنا لمعانه
فدنا لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وردّه سجّانه
فالنار ما اشتملت عليه ضاوعه ... والماء ما سحّت به أجفانه
ثم استعاذ من القبيح وردّه ... نحو العزاء عن الصّبا إيقانه
وبدا له أن الذى قد ناله ... ما كان قدّره له ديّانه
والشعر جزل مصقول، والشاعر يبثّ فى أوائله حنينا لأيامه الماضية وكأنها عهود هوى وحب سقطت منه، وينظر إلى البرق متطلعا لليوم الذى تردّ إليه فيه حريته، فيعنف به السجّان، ويحس كأن نار الوجد اندلعت فى ضلوعه ظمئا إلى أهله وموطنه. وتسحّ الدموع وتنهلّ لا تجفّ، ويرده إيمانه ويقينه، فيستسلم للقضاء محزون الفؤاد شجيّه. وتشيع الأبيات وتصل إلى سمع الفتح بن خاقان ومغنى المتوكل بنان، ويصنع بنان فيها صوتا يلحنه أمام المتوكل فيستحسن الشعر واللحن ويسأل عن قائله، فيذكر له، ويكلمه الفتح فى أمره وما يزال يرقق قلبه حتى يعفو عنه، غير أنه يشترط أن يظل عند الفتح وفى يده وألا يبرح سامرّاء حتى لا تحدثه نفسه بالعودة إلى الثورة. وتردّ إليه حريته فيمدح المتوكل ويغدق عليه من صلاته، كما يمدح المنتصر. ونراه يبالغ فى التقية من المتوكل فلا يكتفى بمديح له عام، بل يسوق الدليل والبرهان على أن العباسيين أحق من العلويين بالخلافة، يقول:
يابن الخلائف والذين بهديهم ... ظهر الوفاء وبان غدر الغادر
وابن الذين حووا تراث محمّد ... دون الأقارب بالنصيب الوافر
نطق الكتاب لكم بذاك مصدّقا ... ومضت به سنن النبىّ الطاهر
وهو يشير فى البيت الأخير إلى قوله تعالى ذكره فى سورة الأنفال: {(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)} يريد أن العباسيين مقدّمون فى وراثة الخلافة على أبناء بنت الرسول عليه السلام، لأن العم يتقدمهم فى الميراث كما تنصّ