للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخبار الجيش العباسى. وكان هواه مع العباسيين، غير أن وقوفه متفرجا دون أن يقحم نفسه فى تلك الحروب وينصر العباسيين جعل إسحق بن إبراهيم المصعبى أحد قواد المعتصم يقبض عليه ويلقى به فى غياهب السجون. ويتوسط له بعض القواد، فيفرج عنه، على ألا يبرح سامرّاء حتى إذا كانت سنة ٢٣٤ لعصر المتوكل هرب إلى دياره وحصونه فيها، واختار حصن مرند، فجمع فيه عدده وأسلحته وأنصاره وزادهم، ورمّ ما كان وهى من سورها، وكان فى داخلها وخارجها بساتين، تدور من حولها أشجار كثيرة. ووجّه إليه المتوكل بعض الجيوش فلم تستطع أن تصل إليه، ثم وجّه إليه بغا الشرابى، فزحف إلى الحصن وقطع ما حوله من الشجر نحوا من مائة ألف شجرة، ونصب عليه المجانيق، ويئس ابن البعيث من مطاولة الحصار، ففرّ على وجهه وهو ينشد:

كم قد قضيت أمورا كان أهملها ... غيرى وقد أخذ الإبلاس بالكظم (١)

لا تعذلينى فيما ليس ينفعنى ... إليك عنى جرى المقدار بالقلم

سأتلف المال فى عسر وفى يسر ... إن الجواد الذى يعطى على العدم

وتبعه نفر من الجيش العباسى، فلحقوه، وهو راكب دابة متقلد سيفا يريد أن يصير إلى نهر عليه رحى ليستخفى فى الرّحى، وأخذوه أسيرا ذليلا، وانتهب الجند داره ودور أصحابه وبعض دور المدينة، ونادى مناد بالامتناع عن النهب. وأتى بابن البعيث إلى المتوكل، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السّيّافون فلوّحوا له بسيوفهم، وقال له المتوكل حانقا غاضبا: ما دعا يا محمد إلى ما صنعت؟ فأجابه: الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإنّ لى فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبى أولاهما بك، وهو العفو، ثم اندفع ينشده:

أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلى ... إمام الهدى والصّفح بالحرّ أجمل

وهل أنا إلا جبلة من خطيئة ... وعفوك من نور النبوة يجبل (٢)

تضاءل ذنبى عند عفوك قلّة ... فمنّ بعفو منك والعفو أفضل

فإنك خير السابقين إلى العلا ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل


(١) الكظم: مخرج النفس من الحاق. الإبلاس: انقطاع الحجة.
(٢) الحبلة: الخلقة والطبيعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>