للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو خليق بأن يشترك مع مبغضيه فى بغض نفسه، وكأنما أصبح تمثالا للبغض الكريه، لا عند الناس فحسب، بل أهم من ذلك عند نفسه. ويا ويل من كان يسلّط عليه سهام هجائه. فإنه كان ما ينى يرسلها عليه. وحدث أن ممدوحه أحمد بن حرب المهلبى الذى طالما دبّج فيه مدائحه وهب له طيلسانا أخضر لم يرضه، فمضى ينظم فى طيلسانه مقطوعات. وكلما فرغ من مقطوعة نظم مقطوعة جديدة حتى أكملها خمسين مقطوعة طارت على ألسنة الأدباء والناس فى عصره كل مطار منها:

يا بن حرب كسوتنى طيلسانا ... ملّ من صحبة الزمان وصدّا

إن تنفّست فيه ينشقّ شقّا ... أو تنحنحت فيه ينقدّ قدّا

طال ترداده إلى الرّفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهّدى

وألذع الأبيات البيت الأخير، بل كلها لاذعة، فالطيلسان أكل الدهر عليه وشرب، حتى لكأنما ملّ صحبة الدهر، فقد آن له أن يبلى ويستريح، وإن أى حركة فيه لتمزّقه إربا، وكل يوم ينخرق فيه خرق ويذهب به إلى دكان الرّفاء، حتى لو بعث به إليه لعرف الطريق من طول ترداد سيره فيه. وتنوّع هجاؤه لهذا الطيلسان القديم البالى، فهو تارة يضمنه بعض ألفاظ قرآنية من مثل قوله:

طيلسان لابن حرب جاءنى ... خلعة فى يوم نحس مستمرّ

فإذا ما الريح هبّت نحوه ... طيّرته كالجراد المنتشر

وقوله:

فيما كسانيه ابن حرب معتبر ... فانظر إليه فإنه إحدى الكبر

قد كان أبيض ثم ما زلنا به ... نرفوه حتى اسودّ من صدإ الإبر

<<  <  ج: ص:  >  >>