لا تلزمنّى فى رعى الهوى سرفا ... وما أوفّيه إلا دون ما يجب
فى عفّة أن يلم بها ... سوء الظنون وأن تغتالها الرّيب
ويكثر فى غزله من ذكر المنازل والديار والفيافى والقيعان والرّكبان والمطايا، وهو يتساءل والمنازل لا تجيب، فقد رحل الأحبة وخلفوا له وجدا ما مثله وجد، وعبثا يخفيه فكل ما حوله يبصره، يقول:
يخفى هواه وما يخفى على أحد ... حتى على العيس والرّكبان والحادى
ويذيع شعره فى بغداد ويغنىّ فيه المغنون والمغنيات، وهو لا يدرى من أمره شيئا فقد كان منكبّا دائما على حلقات الدرس وعلى التصنيف والتأليف. ويساير ذات يوم القاضى محمد بن يوسف فيسمع جارية تغنىّ بقوله:
أشكو غليل فؤاد أنت متلفه ... شكوى عليل إلى إلف يعلّله
سقمى تزيد على الأيام كثرته ... وأنت فى عظم ما ألقى تقلّله
الله حرّم قتلى فى الهوى سلفا ... وأنت يا قاتلى ظلما تحلّله
ويلتفت إلى صاحبه قائلا: كيف السبيل إلى ارتجاع مثل هذا الشعر الذى تلوكه أفواه المغنين والمغنيات، فيوئسه من ردّه قائلا؛ هيهات سارت به الركبان.
ومن طريف ما يروى له:
فلا تطف نار الشوق بالشوق طالبا ... سلوّا فإن الجمر يسعر بالجمر
ولم تمتد حياته طويلا. فقد توفى سنة ٢٩٧ وهو فى الثانية والأربعين من عمره، ويقال إنه لما مات جلس ابن سريج مناظره المذكور آنفا فى مجلسه وبكى وجلس على التراب. وقال: ما آسى إلا على لسان أكله التراب من ابن داود. وحزن عليه تلاميذه حزنا شديدا. ويقال إن نفطويه جزع عليه جزعا عظيما. ولم يجلس فى حلقته للناس يحاضرهم سنة كاملة.