الصوفى، الذى أضاف إلى التوبة عند المتصوفة عنصر الندم، والذى أخذ عن الشيعة فكرة عمود النور محل نفوس المؤمنين، وكأن الله يتجلّى فيهم منذ البدء.
وقدم بغداد بعد أن أصبح مزوّدا بكثير من المعارف وصحب الجنيد وأخذ عنه شطحاته وعباراته الطنانة الموهمة، وبالغ فيها وأسرف إسرافا شديدا، ووقع فى نفسه أنه أعلى من الجنيد فى عالم التصوف وأرفع، وأنه رقى مرتبة الكمال التى طالما حلم الجنيد ببلوغها دون أن يدركها. وفارقة متجها إلى أداء فريضة الحج وأقام بمكة سنة، ثم أخذ يطوف فى البلدان وتعرّف فى طوافه على أبى بكر الرازى أشهر أطباء العصر وتخرج عليه فى الفلسفة اليونانية وعلم الكيمياء، وتعمق فى طوافه ورحلاته حتى بلغ الهند، وتعرف فيها على ما يشيع بها من السحر والشعبذة والنيرنجيات. وفى عودته التحق بالقرامطة وتمثّل عنهم عقيدتهم. وأدى فريضة الحج للمرة الثانية، وعاد إلى بغداد سنة ٢٩٥ للهجرة وأخذ ينشر بها آراءه فى أن الزاهد إذا تحمل المشاق والآلام وظل يصفىّ نفسه بالمجاهدات والرياضات المضنية انتهى إلى الدرجة الرفيعة التى يبتغيها إذ يتمثّل فى نفسه حقيقة الصورة الإلهية التى سوّاها الله فيه، وبذلك يصبح هو والحق بمنزلة سواء. وجادله أستاذه الجنيد فى هذه الفكرة طويلا، غير أن كثيرين من المريدين اجتمعوا حوله، وأخذ يكثر من الشطحات ومن الكلام الموهم للكفر والخروج حتى على متصوفة عصره من مثل «أنا الله»، ويقال إن الشبلى قال له: بل أنت بالله، ومثل «أنا الحق»، ويقال إن الجنيد قال له: بل أنت بالحق.
ويبدو أنه كان يضيف إلى ذلك بعض الشعبذات والمخلوطات الكيميائية التى تعلمها على الرازى والنيرنجيات التى تعلمها فى الهند، وأحاطت به ريب المعتزلة واتهموه بالزندقة، وأثار الفقهاء عليه رجال الدولة، فسيق إلى السجن لسنة ٣٠١ وظل فيه ثمانى سنوات، كان يسمح له فيها بأن يزوره مريدوه وأن يتراسل مع من يشاء.
وحاولت «شغب» أم الخليفة المقتدر وحاجبه نصر أن يخلصاه من السجن، فدعا الوزير حينئذ حامد بن العباس قضاة المذاهب الأربعة لمحاكمته، وانعقدت جلسات المحاكمة، وتقدم الشهود، وشهدوا بأنه ادعى الربوبية والنبوة، ولكنه أنكر ذلك، وثبت عليه أنه يقول بأن الحج ليس من الفرائض الواجب أداؤها شرعا. ولعل هذه التهمة هى التى دفعت الفقهاء إلى الفتوى بصلبه، فقد أنكر ركنا أساسيّا من أركان الدين. ويبدو أنه لم يكن يحلّ المتصوف الذى بلغ مثل منزلته بالمجاهدات