للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد رفع الرّسول صلى الله عليه وسلم مراتب فوق جميع الخلق، ويبدو أنه أول من أعدّ لفكرة الحقيقة المحمدية، وأن محمدا بتلك الحقيقة لا بصورته الجسدية يعدّ مبدأ العالم، إذ هو النور الذى تفجّرت من ينابيعه جميع أنوار النبوات، بل هو مبدأ الوجود كله ونبعه الفيّاض السابق لكل موجود، أو بعبارة أخرى هو الحقيقة الإلهية السارية فى الوجود.

وتكثر عنده كلمات الوجد ولهيبه المشتعل فى القلب والسكر ونشوته التى تفقده وعيه والفناء الذى تفنى فيه جميع حواسه، حتى ليرى كأن وجوده هو نفس وجود الذات العلية، وفى ذلك يقول:

إذا بلغ الصّبّ الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور فى سطوة الذكر

فشاهد حقّا حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر

فكمال الحب الصوفى عنده أن يجاهد المتصوف ويعانى ويلقى الأمرّين فى حبه بمداومة ذكر محبوبه وتسبيحه حتى ليغيب عند ذكره حين تأخذه نشوته به، فيغيب عن ربه ويغيب عن الوجود كله. وحينئذ يصل المتصوف إلى حال تجعله يؤمن بأن صلاة أمثاله من الكفر، وهو يريد أنه حين يصل إلى هذه الحال يرتفع عنه التكليف.

وبذلك يتضح أنه هو الذى أعدّ للانفصام بين أهل الحقيقة من المتصوفة وأهل الشريعة من الفقهاء. وظل هذا الانفصام قائما بعده عند الغلاة من المتصوفة حتى رتق فتقه القشيرى والغزالى فى القرن الخامس الهجرى. ويبدئ ويعيد فى تصوير مجاهداته وما يحتمل فيها من أهوال طوال وآلام ثقال، كقوله فى بعض مناجاته للذات العلية: «أنت تعلم ولا تعلم، وترى ولا ترى. . . وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبّك وعواطر قربك أستحقر الراسيات، وأستخفّ الأرضين والسموات، وبحقك لو بعت منى الجنّة بلمحة من وقتى أو بطرفة من أحرّ أنفاسى لما اشتريتها، ولو عرضت علىّ النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتها فى مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك عنى». ومن قوله فى وصف مجاهداته:

لقد ركبت على التغرير واعجبا ... ممن يريد النّجا فى المسلك الخطر

كأننى بين أمواج تقلّبنى ... مقلّب بين إصعاد ومنحدر

<<  <  ج: ص:  >  >>