للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أكان أصله روميّا أم نبطيّا أم فارسيّا أم سريانيّا. والذوق العام فى الكتاب ذوق لغوى محافظ شديد المحافظة.

وعلى ضوء الذوقين اللذين وصفناهما للبيئتين السالفتين صنّف معاصر لابن قتيبة هو إبراهيم بن المدبر المتوفى سنة ٢٧٨ رسالة (١) بديعة فى موازين البلاغة وأدوات الكتابة، سماها الرسالة العذراء، وهى أول رسالة تناولت بدقة صناعة النثر، وهو يستهلها بأن شخصا طلب إليه أن يعرّفه بجوامع أسباب البلاغة وآداب الكتابة، ويشيد بهذه الصناعة، ويطلب ممن يريد حذقها طول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء ورسائل المتقدمين والمتأخرين والوقوف على الأشعار والأخبار والسير والأسمار والخطب ومحاورات العرب ومعانى العجم وحدود المنطق وأمثال الفرس ورسائلهم وعهودهم وسيرهم، مع التزود بالنحو والتصريف واللغة والفقه. وابن المدبر بذلك كله يلتقى بذوق علماء الكلام كما يمثلهم الجاحظ فيما حكاه من الثقافات الأجنبية، كما يلتقى بعلماء اللغة والتصريف، فهو يستضئ بهم جميعا. ويدعو من يريد التخصص بهذه الصناعة أن يمهر فى نزع آى القرآن الكريم ووضعها فى مواضعها، وكذلك الأمثال والأشعار وإن كانت الأخيرة لا تستحبّ فى مخاطبة الخلفاء، وهو فى هذه الملاحظة يستمد من الجاحظ مباشرة (٢) وقد استمد منه كثيرا فى رسالته. والمهم أنه يشيد فى تكوين ثقافة الأديب بالثقافة العربية، ويضعها جنبا إلى جنب مع الثقافات الأجنبية، مما يدل بوضوح على أنه كان يتأثر ببيئة المتكلمين تأثرا عميقا. ويتحدث عن زىّ الكاتب وحسن هندامه، ويطالب-فى إلحاح-كما طالب الجاحظ من قبله بالملاءمة الدقيقة بين الكلام وطبقات الناس من الخلفاء والوزراء والكتّاب وولاة الثغور وقواد الجيوش والقضاة والعلماء وذوى النباهة والظّرف. ويقول إن لكل طبقة من هذه ما يناسبها من الألفاظ والمعانى، حتى لا يجرى الأديب شعاع بلاغته فى غير مساربه ولا ينظم جوهر كلامه فى غير سلكه. ولا بد-كما قال الجاحظ مرارا وتكرارا- من المشاكلة الدقيقة بين الألفاظ والمعانى، حتى توضع الألفاظ فى مواضعها وتنزل


(١) جمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت ٣/ ١٩٩.
(٢) البيان والتبيين ١/ ١١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>