بميزان التصريف. ويعود إلى وضع الألفاظ فى أماكنها، وينهى-كما نهى المتكلمون من قبل-من ليست له موهبة أدبية عن محاولة الانتظام فى هذه الصناعة. وينقل عن أحد المتكلمين، وهو العتّابى، رأيه فى اختيار الألفاظ وصعوبته. وينصح الكاتب بعرض ما يكتبه فى باكورة حياته على المختصين ليروا مقدار صلاحيته للصناعة. وينهى-على هدى الجاحظ-عن الألفاظ الحوشية والمبتذلة. وينقل عنه إعجابه بالكتّاب إذ قال:«ما رأيت قوما أمثل طريقة فى البلاغة من الكتّاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعّرا وحشيّا ولا ساقطا سوقيّا». ويعود إلى فكرة الوضوح الجاحظية. وينقل عنه بعض كلامه. ويذكر أرسطو وينقل عنه بعض ما قاله فى النّصبة التى تدل على اللفظ والإشارة والخط والعقد كأعلام الأفراح. وينقل أيضا عنه حدّه للإنسان وأنه الحى الناطق، وهو بذلك يقترب من ذوق المتكلمين وانتفاعهم ببعض ما ترجم دون الذوبان فيه. ويبيّن أهمية الكتب المحبّرة تحبيرا جيدا فى استنزال الجبابرة وأنها قد تصنع ما لا تصنعه الجيوش اللّجبة. ثم يسوق صفحات جلبها من البيان والتبيين عن تعريف اليونان والروم والفرس للبلاغة. ولا يكتفى بذلك بل ينقل أيضا الصحيفة التى دوّنها الجاحظ عن الهنود فى البلاغة. ويتلوها بما دوّنه عن بعض بلغاء العرب والمتكلمين مثل خالد بن صفوان وعمرو بن عبيد والخليل بن أحمد، وكل ذلك دليل واضح على أن ابن المدبر وضع نصب عينه فى كتابته لرسالته العذراء ابن قتيبة والجاحظ، ولكن أثر الجاحظ وكتابه البيان والتبيين أبعد مدى وأعمق أثرا.
وحتى الآن لم نتكلم عن كتاب يمثل بيئة المترجمين والمتفلسفة ومن كان ينهج نهجهم فى الدعوة لمعايير البلاغة اليونانية، ولعل خير كتاب قدمته هذه البيئة فى مجال النثر والكتابة هو الكتاب الذى نشر باسم نقد النثر منسوبا إلى قدامة بن جعفر، وقد تبيّن فيما بعد أنه جزء من كتاب البرهان فى وجوه البيان لإسحق بن إبراهيم بن سليمان ابن وهب، وهو من أسرة ظلت تعمل فى دواوين الخلفاء العباسيين منذ المأمون، وكان جده وزيرا للمهتدى والمعتمد، وتوفى سنة ٢٧٢ فبينه وبين حفيده جيل واحد مما يدل على أنه ممن عاشوا بأخرة من هذا العصر. ونراه فى مستهل كتابه يزرى على كتاب الجاحظ:«البيان والتبيين»، وهذا طبيعى لأنه يمثل بيئة المتفلسفة