والمترجمين التى كانت تعارض المتكلمين فى مقاييسهم البلاغية، لأنهم لم يستوعبوا فى رأيه كتابات أرسطو فى المنطق والجدل والخطابة. وهو يفتتح كتابه بمباحث فى العقل تدل على أنه شيعى إمامى، ويعقد فصلا للقياس يحلله فيه على طريقة أرسطو، ويقول إنه جعل عمادا وعيارا على العقل كما جعل البركار لتقويم الدائرة والمسطرة لتقويم الخط.
ويفيض فى مباحث تتصل بالأخبار وبالفقه. ويتكلم عن بعض خصائص التعبير كما يتكلم عن الرمز ويقول إنه أتى منه كثير فى كتب المتقدمين من الفلاسفة وكان أكثرهم استعمالا له أفلاطون. ويعود إلى الحديث عن بعض خصائص العبارات وعن الأمثال والالتفات وعن المبالغة ويرتضيها متأثرا بأرسطو. ويعرض لمبحث الفصل والوصل بين العبارات وكذلك لمبحث التقديم والتأخير. ويقسم الكلام المنثور إلى خطابة وترسل واحتجاج وحديث، وينوّه بالإيجاز الذى حذّر الجاحظ منه، ويقول إن أرسطو وأوقليدس كانا شديدى الإيجاز، بينما امتاز بالإطناب جالينوس ويوحنا النحوى. ويعقد فصلا فى نحو عشرين صحيفة، أجمل فيه كتاب الجدل لأرسطو. وواضح أنه توسّع فى تشريعه للنثر العربى ووضعه لمعاييره فى الأخذ عن كتابى أرسطو فى المنطق والجدل. وهو أخذ يبدو فيه الجفاف وأنه ينبو عن الذوق العربى، ولذلك لم يلق هذا الكتاب ترحيبا من المتأدبين. وكان لذلك أثره فى أن نقاد العرب لم ينقلوا عنه شيئا فى كتاباتهم عن الخطابة والنثر، إذ رأوه يحتكم إلى أشياء غير وثيقة الصلة بأدبهم، ومن أجل ذلك ظل الكتاب وصاحبه مجهولين من عامة النقاد. ولا نبعد إذا قلنا إن بيئة المتكلمين هى التى سيطرت بما وضعته من معايير على أذواق الكتاب والأدباء فى العصر، وظل ذلك حقبا متطاولة، وهى كما قلنا بيئة معتدلة كانت تزاوج بين المعايير العربية والمعايير الأجنبية بحيث ظلت أوضاع العربية قائمة، كما ظلت مقوّماتها حيّة، مقومات تعتمد على التراث القديم وتتطور بما يلاثم العصر والثقافات الحديثة، تطورا لا يجنى على العربية، بل تجنى منه ثمارا رائعة، غذاء للعقول وشفاء للقلوب والأرواح.
وعلى هذا النحو كان ذوق بيئة المتكلمين هو الذوق الأدبى العام، وكان لذلك أثره فى أن ازدهر النثر العربى وأخذت موضوعاته تتنوّع تنوعا واسعا، وقاد هذا الازدهار الجاحظ المتكلم المشهور. إذ نراه يعنى بتصوير الطبقات فى مجتمعه، فهو يكتب عن الأتراك والسودان والموالى والعرب والنصارى واليهود. ويفسح