للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التى حكاها الطبرى عن صاحب الزنج، بل لقد أجمل ما رواه من خطبه (١) بحيث لا نكاد نتبينها فى وضوح. وضعفت الخطابة الدينية على ألسنة الخلفاء وإن ظلت مزدهرة فى المساجد وفى خطب الجمع والعيدين، فقد أصبح من المعتاد ألا يخطب الخليفة يوم الجمعة إلا ما كان من الخليفة المهتدى الورع الذى ظل فى الحكم نحو عام، فإنه كان يذهب إلى المسجد الجامع بسامرّاء فى كل جمعة ويخطب الناس ويؤمّهم (٢)، ويروى أن الخليفة المعتضد حاول أن يخطب فى بعض الأعياد، فأرتج عليه ولم تسمع خطبته (٣)، ولم يخطب خليفة بعده فى العصر سوى الراضى، ولم تؤثر خطبه.

ولكن الخطابة الدينية إن كانت قد ضعفت على ألسنة الخلفاء فإنها نشطت نشاطا عظيما فى المساجد فقد كانت تعقد حلقات للوعاظ والقصّاص وكان الناس يتحلّقون من حولهم فيما يشبه احتفالات الأعياد، وكان منهم الرسميون الذين تعيّنهم الدولة للخطابة فى أيام الجمع ومنهم غير الرسميين، وهم الجمهور الأكبر. وكانوا يستمدّون فى وعظهم وقصصهم من القرآن الكريم والحديث النبوى وقصص الأنبياء والمرسلين، ومنهم من كان يقرأ القرآن الكريم ويفسره، وكانوا يعنون بعون الضعفاء والمساكين واليتامى وبالجهاد وحرب الأعداء مستعينين فى ذلك بأعمال البرّ. وكثير منهم كان يذهب مع الجيوش المجاهدة للوعظ فى الحرب وبثّ روح الحماسة الدينية فى نفوس المجاهدين من مثل أبى العباس الطبرى الذى مرّ ذكره والذى كان يعظ ويقصّ على المجاهدين فى طرسوس. ولم يكن يخلو يوم من أيام رمضان من واعظ أو قاصّ بعد الصلاة. وكانت العامة تشغف بهم شغفا شديدا، حتى ليحكى عن الطبرى أنه تعرّض لقاصّ ببغداد ينكر عليه بعض ما يقوله، فصاحت به العامة ورموا باب داره بالحجارة. ولا بد أن نفرق بين هؤلاء القصاص الوعاظ وبين قصّاص آخرين كانوا يجلسون للشباب والغلمان فى الطرقات ببغداد ويقصّون عليهم نوادر الأخبار والحكايات الهزلية، وكانوا يسلكون فى المشعوذين، ويضطرب بعض المستشرقين فيخلط بينهم وبين القصّاص الوعّاظ،


(١) الطبرى ٩/ ٤١٤ وما بعدها.
(٢) مروج الذهب ٤/ ٩٦.
(٣) طبرى ١٠/ ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>