للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعر، لا لأن أصحابه كانوا يرقون إلى الوظائف العليا فى الدولة ودواوينها فحسب ولا لأنه كان يختار منهم الوزراء فحسب، بل أيضا لأنه أصبح يضارع الشعر فى التأثير فى وجدان القارئ، بما وفّر له كتّابه العظام من جزالة الألفاظ ورصانتها ومن حسن تلاؤمها فى الجرس. فالكاتب ما يزال يلائم بين لفظة ولفظة، بل أحيانا بين حرف وحرف، حتى يأسر العقول والألباب. وكان أكثر من الشعر طواعية لحمل الأفكار بحكم يسر تعابيره وما يجرى فيها من مرونة، مما جعل الشعراء أنفسهم يتخذونه فى بعض الأحوال أداة لتصوير خواطرهم ومشاعرهم وأفكارهم، كما ذكرنا آنفا. وتحمل كتب الأدب كثيرا من الرسائل الإخوانية لكتّاب بارعين، ونحن نعرض طائفة منها تصوّر مدى ما كانوا يحققونه لها من إجادة وإتقان، فمن ذلك رسالة للحسن بن وهب كتب بها إلى المتوكل فى عيد نيروز، يهنئه بالعيد، وكلها دعاء وابتهال، يقول (١):

«أسعدك الله-يا أمير المؤمنين-بكرّ الدهور، وتكامل السرور، وبارك لك فى إقبال الزمان، وبسط بيمن خلافتك الآمال، وخصّك بالمزيد، وأبهجك بكل عيد، وشدّ بك أزر التوحيد، ووصل لك بشاشة أزهار الربيع المونق، بطيب أيام الخريف المغدق (كثير المياه) وبمواقع تمكين لا يجاوزه الأمل، وغبطة إليها نهاية ضارب المثل، وعمّر ببلائك الإسلام، وفسح لك فى القدرة والمدة، وأمتع برأفتك وعدلك الأمة، وسربلك (ألبسك) العافية، وردّاك السلامة، ودرّعك العزّ والكرامة، وجعل الشهور لك بالإقبال متصدّية، والأزمنة إليك راغبة متشوقة، والقلوب نحوك سامية، تلاحظك عشقا، وترفرف نحوك طربا وشوقا».

وكانت قد أخذت تشيع التهنئات بالأعياد الفارسية والإسلامية شعرا فجعلها الحسن بن وهب نثرا، وفى رأينا أنه لم يعش طويلا فى عصر المتوكل. وكانوا قد اعتادوا كثيرا فى العصر العباسى الأول أن يتهادوا التحف والطرف، وعادة كانوا يرسلون مع الهدية بعض الأشعار، وأخذ النثر يزاحم الشعر فى هذا الموضوع، فمن ذلك أن نرى الكندى الفيلسوف المتوفى سنة ٢٦٠ كما مرّ بنا يهدى إلى بعض إخوانه سيفا ويكتب معه (٢):


(١) المحاسن والأضداد ص ٢٨٥.
(٢) غرر الخصائص الواضحة ص ٤٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>