للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجسد لا جمال الروح، والعبرة بالشكل لا بالجوهر، وبالقالب لا بما يحتويه، وبالبريق الخارجى للمعانى لا بالبريق الداخلى. وعمّ ذلك حتى طغى فى كتابة بعض الأخبار، وحتى نجد الخليفة القاهر (٣٢٠ - ٣٢٢ هـ‍) يطلب من بعض أصحاب التاريخ وصف الخلفاء العباسيين الذين سبقوه، ويقول له: «لا تغيّب عنى شيئا، ولا تحسّن القصة ولا تسجع فيها» (١)، فهو لا يريد فى وصفهم إدخال زينة السجع، حتى لا يجور اللفظ على المعنى. وكأنما أصبح السجع أسلوب الكتابة العامة واطّرد ذلك فى العصر التالى، وظل آمادا متطاولة.

وابن المعتز لا يكتفى فى هذه الرسالة الأدبية بالسجع، بل يضيف إلى ذلك ألوانا من البديع، إذ تطالعنا فيها توّا الطباقات. فالنهوض أو الرحيل يقابل القعود، واليأس يقابل الرجاء، والخراب يقابل العمران، والنشر يقابل الطىّ، والباقى يقابل الفانى، والظاعن يقابل المقيم. وبجانب الطباقات ما اشتهر به فى شعره من كثرة التشبيهات وإيراد الصور الطريفة، فالخيل تأكل الأرض بحوافرها وتمد من الغبار سرادقا ضخما يظل الجيش، والغرر فى وجوهها كأنها صحائف البرق، والتّحجيل فى سيقانها كأنه الأساور من فضة تحيط بها، وما سال على خدودها من اللجم كأنه أقراط فى آذانها، والحصباء جوهر، والتراب مسك أذفر. وتتوالى الصور والتشبيهات وابن المعتز دائما يستمد من مخازن لا تنفد، مخازن تعطيه كل ما يريد من زخارف السجع وزخارف الصور والأخيلة، وكأنه لم يلبث أن انضم بقوة إلى الرّكب، ركب العناية بالوشى. ويطلّ القرن الرابع، وإذا هذه العناية تصبح هى الذوق العام فى الكتابة الأدبية، فليس هناك كاتب نابه إلا ويتخذ هذا الأسلوب الفنى الجديد أسلوب السجع وما يطوى فيه من زخارف البديع.


(١) مروج الذهب ٤/ ٢٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>