للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا، بعد ما كانت بالمرأى القريب جنّة الأرض، وقرار الملك، تفيض بالجنود أقطارها، عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد، كأن رماحهم قرون الوعول، ودروعهم زبد السيول، على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمدّ بالنّقع (الغبار) سرادقها، قد نشرت فى وجوهها غرر كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأنه أسورة اللجين، وقرّطت عذرا (١) كالشنوف، فى جيش يتلقف الأعداء أوائله، ولم تنهض أواخره، قد صبّ عليه وقار الصبر، وهبّت له روائح النصر، يصرّفه ملك يملأ العيون جمالا، والقلوب جلالا. . . قبل أن تخبّ (تعدو) مطايا الغير، وتسفر وجوه الحذر، وما زال الدهر مليئا بالنوائب، طارقا بالعجائب، يؤمن يومه، ويغد رغده. على أنها-وإن جفيت-معشوقة السكنى، حبيبة المشوى (المنزل) كوكبها يقظان، وجوها عريان (صحو) وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها مسك أذفر (ذكىّ) ويومها غداة (لطيف الطقس) وليلها سحر، وطعامها هنئ، وشرابها مرئ، وتاجرها مالك، وفقيرها فانك (غير محتاج) لا كبغدادكم الوسخة السماء، الومدة (الراكدة) الهواء، جوها نار، وأرضها خبار (لينة) وحيطانها نزوز (تنز بالماء) وتشرينها (أكتوبر) تموز (يولية) فكم فى شمسها من محترق، وفى ظلها من غرق، ضيقة الدار، قاسية الجوار، ساطعة الدخان، قليلة الضيفان، أهلها ذئاب، وكلامهم سباب، وسائلهم محروم، ومالهم مكتوم، لا يجوز إنفاقه، ولا يحلّ خناقه (كيسه) وحيطانهم خصاص (أكواخ) وبيوتهم أقفاص (ضيقة) ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم».

والسجع زاخر فى الرسالة كما يرى القارئ، وكأن ابن المعتز أراد أن يجعلها رسالة أدبية خالصة، فهو يختار لها الأسلوب الذى أخذ يشيع فى عصره أسلوب درر السجع ولآلئه التى أصبحت موضع إعجاب الكتّاب والتى كانت تروقهم إلى أقصى حد، مما هيأ الأذواق لأن ترفع اللفظ فوق المعنى، فالمدار على جمال


(١) العذر: جمع عذار وهو من اللجام ما سال على عد؟ ؟ ؟ الفرس. الشنوف: جمع شنف وهو القرط.

<<  <  ج: ص:  >  >>