للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البصير وأبى العيناء فى بعض رسائلهما. وقد أخذت تنتشر مع ذلك عناية باصطناع الصور البيانية وبعض ألوان البديع على نحو ما لاحظنا فى بعض رسائل ابن مكرم، وكأن الكاتب لا يريد أن يؤلف كلاما فحسب، بل يريد أن يصوغ دررا، مما هيّأ لسيادة السجع وسيطرته على جميع الرسائل سياسية وإخوانية منذ عصر المقتدر، بل لقد هيأ ذلك لظهور كتاب الألفاظ الكتابية التى ألف فيها عبد الرحمن ابن عيسى الهمذانى المتوفى سنة ٣٢٠ كتابه الذى وقفنا عنده فى موضع آخر، وهو يدل بوضوح على أنه أخذت تسود فكرة النموذج فى الكتابة: فى التهانى والتعازى والبشارة والإنذار والاعتذار، وأيضا فى كتابة الرسائل الديوانية، ففى كل ذلك درر من السجع والصور تحفظ وتصبح مادة للكتّاب، تعينهم فى كتابة الرسائل، وكأنما كان صنيع الهمذانى نذيرا بجمود النثر العربى وأن يصبح صيغا برّاقة، تخلب بما فيها من أسجاع قبل أن تخلب بما فيها من معان.

ولم يقف انتشار السجع وشيوعه عند الرسائل الإخوانية والديوانية، فقد أخذ يشيع فى الرسائل الأدبية الخالصة، وكان الجاحظ قد أشاع فى تلك الرسائل أسلوب الازدواج المعروف به، غير أن من تلوه فى القرن الثالث الهجرى أخذوا يدخلون عليها السجع ويكثرون منه، على نحو ما تصوّر ذلك رسالة لابن المعتز كتب بها إلى بعض أصدقائه يصف سامرّاء ويأسى لخرابها ويذم بغداد وأهلها، وهى أشبه بمناظرة بين البلدتين: العاصمة القديمة سامرّاء، والعاصمة الجديدة بغداد، وكان قد انتقل إليها المعتمد منذ سنة ٢٧٦ وانتقل معه ابن المعتز. ولعل من الخير أن نسوق أكثر هذه الرسالة الطريفة، وهى تمضى على هذه الصورة (١):

«كتبت إليك من بلدة قد أنهض (٢) الدهر سكّانها، فشاهد البأس فيها ينطق وحبل الرّجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى وكأن خرابها ينشر، وقد وكّلت إلى الهجر نواحيها، واستحثّ باقيها إلى فانيها، وقد تمزّقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حقّ جوار، فالظّاعن منها ممحوّ الأثر، والمقيم بها على طرف سفر، نهاره إرجاف، وسروره أحلام. . . فحالها تصف


(١) زهر الآداب ١/ ٢٠٧ وجمهرة رسائل العرب ٤/ ٤٠٣.
(٢) أنهض هنا: بعث على الرحيل.

<<  <  ج: ص:  >  >>