للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العصر الأموى. وفى أخباره أنه كان يبيع الخبز والسمك بسيحان (١) أحد نهيرات البصرة، وقد يشير ذلك إلى أن نشأته كانت بسيطة، وأنه كان فى حاجة إلى أن يكتسب معاشه. ويروى أن أمه ضاقت بانهماكه فى الدرس والقراءة، فطلب منها يوما طعاما، فجاءته بطبق ملئ بكراريس أودعها البيت، وقالت له:

ليس عندى من طعام سوى هذه الكراريس، تريد أن تنبهه إلى التكسب. فذهب إلى الجامع مغتمّا، ولقيه مويس بن عمران أحد رفاقه الأثرياء فى الدرس، فسأله ما شأنك؟ فحدّثه بحديث أمه، فأخذه إلى منزله وأعطاه خمسين دينارا، فأخذها فرحا، ودخل السوق، واشترى الدقيق وحمله الحمّالون إلى داره، وسألته أمه من أين لك هذا؟ فقال لها من الكراريس التى قدّمتها إلىّ (٢).

وكأن مويس بن عمران كان رمزا مبكرا لما سيصيبه من أموال وعطايا من الخلفاء والوزراء.

ولم تقف ساحات تثقفه عند المسجد والمربد وما كان يأخذه عن جلّة العلماء أمثال الأصمعى وأبى زيد والأخفش وأبى عبيدة أصحاب اللغة والأخبار ولا عند أبى الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس والنظّام من المعتزلة، ولا عند كبار الفقهاء والمحدّثين فى عصره، بل امتدت إلى كل فروع الثقافة، عن طريق المكتبات، وكان الكتاب بمجرد أن يؤلّف أو يترجم فى البصرة أو فى بغداد تتكاثر نسخه فى أيدى الورّاقين أصحاب المكتبات ودكاكين الكتب. ومعروف أن البصرة كانت دار الترجمة قبل نشوء بغداد وفيها ترجم ابن المقفع كليلة ودمنة وكتب الآداب الفارسية ومنطق أرسططاليس، وبهذه الثقافة العلمية التى حققتها لنفسها مبكرة استطاعت أن تضع علم النحو وقوانينه النهائية، كما استطاعت أن تظفر بالمعتزلة أصحاب الفكر الحر فى الدراسات الدينية، وصلة المعتزلة بالفلسفة مقرّرة معروفة، ولذلك يكون من الخطأ أن يزعم زاعم أن الجاحظ لم يقرأ الترجمات اليونانية إلا فى بغداد (٣) بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، حين دخلها وأقام فيها لعهد المأمون، فقد كانت تحت بصره فى دكاكين


(١) معجم الأدباء ١٦/ ٧٤.
(٢) المعتزلة لابن المرتضى ص ٣٨٠.
(٣) الجاحظ لشارل بلات ص ١١٥ وفى مواضع متفرقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>