للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوراقين، ولم يكن يكتفى بقراءة كتاب أو كتب فى اليوم الواحد، إذ يذكر صاحب الفهرست أنه كان يكترى دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للقراءة والنظر (١). ويقول أبو هفّان: «لم أر قط ولا سمعت من أحبّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان» (٢). وكان أشبه بآلة مصورة فليس هناك شئ يقرؤه إلا ويرتسم فى ذهنه، ويظل فى ذاكرته آمادا متطاولة. ومن أكبر الدلالة على شغفه بالقراءة والكتب المقدّمة الطويلة التى وضعها بين يدى كتابه الحيوان، وهى نحو مائة صفحة فى تمجيد الكتب، وقد ضمنها فهرست كتبه الكثيرة التى صنّفها قبل الحيوان.

وكان من أهم ما شغف به الاعتزال، وقد مضى يلزم أساتذته فى عصره، ويستوعب كل ما كان عندهم، بادئا بأبى الهذيل العلاّف، وكلما اشتهر معتزلى لزم حلقته، وكان من أهم من لزمهم النظام (٣)، وكان لا يبارى فى المناظرة وإفحام الخصوم بالبراهين والأدلة القاطعة، فتلقّن ذلك عنه، وسنراه يطبقه فى كل جانب من جوانب كتاباته الكثيرة، وفيه يقول: «لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم، ولولا مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النّحل، وأقول لولا أصحاب إبراهيم، وإبراهيم (النظام) لهلكت العوام من المعتزلة فإنى أقول إنه قد أنهج لهم سبلا وفتق لهم أمورا واختصر لهم أبوابا ظهرت فيها المنفعة وشملتهم بها النعمة» (٤) وكان النظام يمزج بقوة بين الاعتزال والفلسفة، وكأنه هو الذى دفع الجاحظ دفعا للتزود من جداولها بكل ما استطاع. ويبدو أنه هو الذى غرس فى نفسه فكرة الثقافة الموسوعية فإن ما رواه عنه فى كتابه «الحيوان» يدل على أنه كان مستوعبا لكل الثقافات فى عصره من فارسية وهندية وعربية وإسلامية. وهداه طول تفكيره فى آراء أستاذه الاعتزالية وغيره من المعتزلة إلى أن يعتنق مجموعة من الآراء كوّنت له فرقة سميت بالجاحظية نسبة إليه، ويعرض الخياط المعتزلى فى كتابه الانتصار طائفة من هذه الآراء، ويشيد بكتابه فضيلة المعتزلة طويلا (٥). ولا نعرف متى بدأ الجاحظ كتاباته


(١) الفهرست ص ١٧٥.
(٢) معجم الأدباء ١٦/ ٧٥.
(٣) معجم الأدباء ١٦/ ٧٥.
(٤) الحيوان ٤/ ٢٠٦.
(٥) الانتصار ص ١٠٣ وانظر فى آراء الجاحظ فهرس هذا الكتاب والفرق بين الفرق للبغدادى ص ١٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>