للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويبدو أنه كان يلقى كثيرا من الإهمال فى أول أمره، حتى كان يضطر حين يؤلف كتابا أو رسالة أن ينسب عمله إلى بعض الكتاب القدماء النابهين أمثال ابن المقفع أو الخليل أو العتّابىّ أو سلم صاحب بيت الحكمة، حينئذ كان الكتاب يروج، ويأتى الناس لروايته (١) عنه. وكان زملاؤه وأساتذته من المعتزلة يعرفون فضله، وفى مقدمتهم بشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس، حتى إذا شغل المأمون بعقيدة الإمامة ومستحقيها من العباسيين أو الشيعة بعد رجوعه من مرو إلى بغداد أشار عليه ثمامة بأن يطلب إلى الجاحظ الكتابة فى هذا الموضوع، وكتب الجاحظ وأعجب المأمون إعجابا لا حدّ له بما كتب (٢)، وكان ذلك فاتحة عهد جديد للجاحظ، لا لأنه تحول من البصرة إلى بغداد، ولكن لأنه أصبح كاتبا رسميّا للدولة، ونظن ظنّا أنه أصبح له راتب منذ هذا التاريخ، ويقال إن المأمون حاول أن يقلده ديوان الرسائل، ولكنه لم يستطع المقام به سوى ثلاثة أيام (٣)، عاد بعدها إلى صناعته من التأليف والكتابة الأدبية، مكتفيا-فيما يبدو-براتبه، وربما كان قبحه الذى عرف به هو السبب الحقيقى فى أنه وجد وظيفة ديوان الرسائل لا تلائمه. وفى بغداد طاب له المقام وأخذ يتعرف على بيئاتها الأدبية والعلمية فى النوادى والمساجد وحلقات الدرس والمناظرة. وتتحول الخلافة إلى سامرّاء فى عهد المعتصم، ويتحوّل معها الجاحظ، ويتخذ سامرّاء دار مقام له وتتوثق الصلة بينه وبين وزير المعتصم ابن الزيات الكاتب الشاعر المشهور، وفيها يتعرّف على كثير من الأدباء، وخاصة أصحاب الفكاهات والنوادر من أمثال أبى العيناء والجمّاز وغيرهما من المضحكين ندماء الخلفاء، وجعلته صلته بابن الزيات يقف فى صفه ضد خصمه أحمد بن أبى دؤاد قاضى القضاة، ولا يلبث المعتصم أن يتوفّى ويتبعه ابنه الواثق وتصير الخلافة إلى المتوكل، وكان يضطغن على ابن الزيات أمورا كثيرة مما جعله يقبض عليه ويعذّبه فى تنّور محمىّ بالنار حتى يموت. ويقرّب المتوكل فى هذه الأثناء ابن أبى دؤاد، ويرسل فى طلب الجاحظ، ويأتونه به مقيّدا، ويأخذ فى تعنيفه، ويقول له الجاحظ:


(١) مجموعة رسائل الجاحظ (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص ١٠٨.
(٢) البيان والتبيين ٣/ ٢٢٣.
(٣) معجم الأدباء ١٦/ ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>