للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«خفّض عليك-أيّدك الله-فو الله لأن يكون لك الأمر علىّ خير من أن يكون لى عليك، ولأن أسئ وتحسن أحسن من أن أحسن فتسئ، وأن تعفو عنى فى حال قدرتك أجمل من الانتقام منى». وعفا عنه ابن أبى دؤاد (١). ولا نلبث أن نرى الفتح بن خاقان وزير المتوكل شغوفا به وبمجالسته ونراه يكتب إليه بأمر من المتوكل أن يصنف رسالة فى الرد على النصارى (٢)، ويغلب أن يكون هذا التكليف فى سنة ٢٣٥، وهى السنة التى أخذ فيها المتوكل النصارى وأهل الذمة بلبس الطيالس كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. وكأن مهمته كاتبا رسميّا للدولة ظلت قائمة منذ مطالع القرن الثالث الهجرى حتى هذا العام. ولا بد أن الدولة كانت تكفيه عيشه كما كانت تكفى كثيرين من العلماء والشعراء، وكان حين يهدى الوزراء والقوّاد وكبار الكتّاب بعض كتبه يهدونه بعض أموالهم، فقد أهداه ابن الزيات خمسة آلاف دينار على كتابه الحيوان حين قدّمه إليه، وبالمثل صنع ابن أبى دؤاد حين أهدى إليه كتاب البيان والتبيين وإبراهيم بن العباس الصولى حين أهدى إليه كتاب الزرع والنخيل. وكان قليل من المال يسدّ حاجته، إذ لم يتزوج ولم يرزق الأولاد، إنما هو وجاريتان، وهذا كل ما هناك. ويظهر أن مرض الفالج (الشلل) ألمّ به مبكرا ولكنه لم يقعده عن الحركة ولا عن الكتابة، فقد ألّف كتاب الحيوان الذى قدّمه لابن الزيات المتوفى سنة ٢٣٣ للهجرة وهو مفلوج (٣)، وبالمثل البيان والتبيين والزرع والنخيل وكثير من رسائله الأدبية. وأصابه النقرس وطال به العمر، وإذا صح أنه صحب الفتح بن خاقان فى زيارته لدمشق سنة ٢٤٣ فإنه يكون قد ظل محتفظا بقواه على الأقل حتى هذا التاريخ. وحين اشتد به المرض عاد إلى البصرة وأمضى بها بقية حياته. ويقول المبرد: «دخلت على الجاحظ فى آخر أيامه. فقلت له:

كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه». ووجّه إليه المتوكل فى سنة ٢٤٧ شخصا يحمله إليه، فقال: «وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذى شقّ مائل، ولعاب سائل، وعقل حائل (٤)؟ ! ».


(١) معجم الأدباء ١٦/ ٧٩
(٢) معجم الأدباء ١٦/ ٩٩ وما بعدها ونراه فى كتابه إليه يشير إلى راتب شهرى معلوم كان يجرى على الجاحظ.
(٣) ذيل زهر الآداب للحصرى ص ١٦٥.
(٤) انظر فى الخبرين السابقين معجم الأدباء ١٦/ ١١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>