للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعدّ الجاحظ أكبر كاتب ظهر فى العصر العباسى، وهو فى الحق الثمرة الناضجة لكل الجهود العقلية الخصبة التى نهض بها المعتزلة، سواء من حيث وضوح المنطق أو من حيث قوة الاستدلال أو من حيث القدرة على التوليد للمعانى، وكأنه يستمد من مخازن عقلية لا تنفد، ولاحظ ذلك ابن المعتز وغيره من القدماء عنده، فقالوا إنه يستخدم المذهب الكلامى فى كتاباته (١)، ويريدون به قوة الحجة المنطقية والقدرة على التسبيب والتعليل، وكأنما يأخذ من نهر لا ينضب، نهر لا يزال يجلب منه الحجة ونقيضها، تسعفه فى ذلك قدرة على الجدل والحوار لا تتوقف عند حد، ومن أجل ذلك قال ابن العميد عنه عبارته المأثورة: «إن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا» بما يستنبطه من خفيات المعانى وما يثيره من دقائق الفكر فى الروح والجسم والحواس والخير والشر والجوهر والعرض، بل أيضا من خفايا المجتمع الذى عاشه وظواهره وما فيه من أخلاق وغير أخلاق مما يتصل بطبقاته الشعبية من لصوص ومكدين ورقيق وغير رقيق وقيان وغير قيان وما يتصل بطبقاته الوسطى من تجار وموظفين فى الدواوين وعلماء وشعراء وما يتصل بطبقاته العليا الحاكمة وغير الحاكمة من خلفاء ووزراء ورؤساء دواوين وقضاة وقواد وما يتصل بأهل الذمة من المجوس والنصارى واليهود، وما يتصل بالحيوان وبالنبات وبالعرب والعجم وفضائل الشعوب، وكأنك تدور فى كتاباته بمتحف لا تزال تفجؤك فيه الطرف والصور. وتارة يعرض عليك مسألة كلامية معقدة، وتارة يعرض حادثة من حوادث الحياة اليومية فى البصرة أو فى بغداد أو فى سامراء، ومرة يطوف بك فى ردهات الفكر العميق أو فى بعض آى القرآن، ومرة يطوف بك فى شارعات المدن السابقة وأزقتها وحوانيتها الصغيرة والكبيرة ودور النخاسة ومن فيها من الجوارى، وهو فى هذا كله لا تفوته قسمة وجه ولا إشارة يد ولا دخيلة نفس.

وبجانب هذا الفكر المنطق فى البحث وفى الوصف وفى الرواية الذى ينقل لك الواقع بكل شياته وسماته، وكأنك بإزاء أشرطة سينمائية تعرض عليك كل ما فى مدن العراق الكبيرة من صور الحياة فى أشدها ترفا ونعيما وأشدها بؤسا وضنكا، حتى لكأنما كتبه دائرة معارف لكل ما كان هناك من أزياء وعادات ومستوى معيشة وأخلاق. ويبلغ من نقله لواقع مجتمعه أنه كان لا يتحرج من ذكر أى شئ حتى


(١) كتاب البديع لابن المعتز (طبعة كراتشة وفسكى) ص ٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>