للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذين شهدوا المنظر بالقاضى، ناظرين إليه وكأنهم يريدون منه تعليقا أو عظة.

ويبدأ ببيان إلحاح الذباب، ويعترف بضعفه أمام أضعف مخلوقات الله، ويصرّح بأن الذباب غلبه وقهره وفضحه، وأنه لا يختلف فى ذلك عن بنى جنسه بشهادة الآية القرآنية الكريمة. والأفصوصة محبوكة حبكا دقيقا بما أودعها الجاحظ من دقائق التصوير والتفاصيل، وكأنها مشهد نراه بأعيننا إذ نقله لنا بحذافيره نقلا واعيا، أو قل نقل عين بصيرة لا يفوتها شئ فى الرؤية الحسية ولا فى الرؤية النفسية.

ولون خامس فى كتابات الجاحظ الأدبية هو كثرة ما أذاع فيها من نوادر ترويحا عن نفس القارئ وتنشيطا له، على نحو ما صوّر ذلك بنفسه فيما أسلفنا من الحديث عن خصائصه، وقد وضع لها قاعدة لغوية عامة ألا تغيّر ولا تبدّل صورتها اللفظية، سواء جرت على ألسنة البدو أو ألسنة العامّة، يقول (١):

«ومتى سمعت-حفظك الله-بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيّرتها بأن تلحن فى إعرابها وأخرجتها مخارج كلام المولّدين والبلديين خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوامّ وملحة من ملح الحشوة والطغام فإياك أن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخيّر لها لفظا حسنا أو تجعل لها من فيك مخرجا سريّا، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها ومن الذى أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها».

وطبّق هذه القاعدة على نفسه تطبيقا شديدا، فالنادرة تروى بألفاظها كما ندّت من ألسنة أصحابها، وإذا كان لفظها عاميّا أو أعرابيّا مسرفا فى البداوة ظلت كما اجتلبت دون أى تعديل، فإنها إن عدّلت مسخت وأصبحت مشوّهة الخلق، وفارقتها طبيعتها، ولم تعد مضحكة. وتكثر النوادر فى البخلاء بل كل الكتاب نوادر إن صح هذا التعبير، وهو يعرض فيه شخصيات المجتمع الفذة الفلسفية والكلامية ومحركاته من شعوبية وغير شعوبية وكثيرا من تقاليده ومطاعمه وملابسه، فكل ما فى المجتمع البصرى من صور حياة يعرض عرضا دقيقا بكل شياته وسماته. وله فى المعلمين كتاب ملأه بنوادرهم، ونسوق له هذه النادرة التى صوّر فيها حمق المعلمين وضعف عقولهم لملازمتهم الصّبية، قال:


(١) البيان والتبيين ١/ ١٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>