الناس، فقد غلبنى وفضحنى أضعف خلقه، ثم تلا قوله تعالى: {(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)}.
والأفصوصة تتألف من ثلاثة أجزاء واضحة، أما الجزء الأول فيصف فيه الجاحظ وقار القاضى عبد الله بن سوّار وتزمته وما بلغه من سيطرته الشديدة-التى لم يبلغها أحد-على نفسه وحركته. وهى سيطرة كانت تظل تلازمه طوال اليوم من الغداة حتى صلاة المغرب، بل لكأنما أصبحت له فطرة ثابتة، فإذا هو يجلس محتبيا غير متكئ فى المسجد، منتصبا كأنه سارية أو عمود من أعمدته، لا يتحرك له عضو ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يغيّر وضعا له فى جلسته، حتى لكأنه بناء مبنى أو صخرة منصوبة. ويقول إنه يتخذ هذا الوضع لا فى يوم من أيام السنة، بل فى جميع أيامها طوالها وقصارها، وشئ منه لا يتحرك، لا رجل ولا يد ولا رأس، حتى إذا اجتمع الناس له فى سماطين وعظهم وعظا بليغا.
وهذا هو الجزء الأول فى القصة أو الأقصوصة، ويليه جزء ثان يصور فيه الجاحظ إلحاح الذباب الضعيف على هذا البناء الضخم من الوقار والتزمت والرزانة وهو يسترسل فى العظة، ويصمد البناء لهذا الإلحاح فترة، ثم تأخذ قواه فى الوهن شيئا فشيئا، والجاحظ يلاحظ ويسجل ملاحظاته مصورا أدق الدقائق من حركة الذباب وكيف تحول من أنف القاضى إلى مؤقه، والقاضى يستشعر وقاره صابرا صبرا عظيما على عضّ الذباب لمؤقه ونفاذ خرطومه فيه دون أن يغمض طرفه أو يغضّن وجهه أو يذبّه. ويظل على وقاره صابرا يوجعه الذباب ويحرقه، حتى إذا نفد صبره أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم يتنحّ الذباب وظل فى إحراقه وإيجاعه، فوالى بين الإطباق والفتح وهو لا يفقد وقاره. وتنحىّ الذباب قليلا ثم عاد بأشد مما كان، لأن المكان كان قد وهى، فكان احتماله له أضعف، فحرّك أجفانه وزاد فى شدة الحركة وفى تتابع الفتح والإطباق. فتنحى الذباب عن المؤق ولم يلبث أن عاد إلى موضعه، وما زال يلحّ على القاضى حتى نفد صبره، فذبّ عن عينيه بيده وعيون الجالسين أمامه ترمقه. وتنحى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه. حينئذ خرج عن وقاره المألوف إذ لم يجد بدّا أن يذبّ عن عينيه بطرف كمه. وعاوده مرارا، وهو يتابع ذبّه بطرف الكم. وننتقل مع الجاحظ إلى الجزء الثالث من الأقصوصة وفيه يصوّر تعلق أعين السامعين،