للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدار من مسجده، فيأتى مجلسه، فيحتبى، ولا يتكئ، فلا يزال منتصبا، لا يتحرّك له عضو ولا يلتفت ولا يحلّ حبوته (١)، ولا يحوّل رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتى كأنه بناء مبنىّ أو صخرة منصوبة فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة المغرب. . . كذلك كان شأنه فى طوال الأيام وفى قصارها، وفى صيفها وفى شتائها، وكان مع ذلك لا يحرّك يده ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم فيوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعانى الكثيرة، فبينما هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه وفى السماطين (٢) بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب، فأطال المكث، ثم تحول إلى مؤق (٣) عينه، فرام الصبر فى سقوطه على المؤق وعلى عضّه ونفاذ خرطومه، كما رام الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرك أرنبته (٤) أو يغضّن وجهه أو يذبّ بإصبعه. فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم ينهض (الذباب) فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحىّ ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرّته الأولى، فغمس خرطومه فى مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف وعجزه عن الصبر فى الثانية أقوى. فحرّك أجفانه وزاد فى شدة الحركة وفى فتح العين وفى تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال بلحّ عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده. فلم يجد بدّا من أن يذبّ عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه. فتنحّى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمّه، ثم ألجأه، إلى أن تابع بين ذلك. وعلم أن فعله كله بعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألجّ من الخنفساء وأزهى من الغراب، وأستغفر الله، فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله عزّ وجلّ أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورا. وقد علمت أنى عند الناس من أزمت


(١) يحتبى: من الحبوة، وهى أن يجمع الرجل بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها.
(٢) السماطين؛ مثنّى سماط وهو الصف.
(٣) المؤق: طرف العين مما يلى الأنف.
(٤) أرنبته: طرف أنفه.

<<  <  ج: ص:  >  >>