للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يسوّى فى أسلوب الازدواج وما يحمل من متاع موسيقى للآذان والأسماع ويتحدث الجاحظ عن اقتران السواد بالشدة والصلابة والصرامة، وأنه لا يوجد لون أرسخ فى جوهره من السواد، ويذكر أن العرب تفخر بسواد اللون وأنه كان كثيرون من سادتهم سودا دهما. ويتحدث عن كثرة عدد الزنج، وكيف أن كثيرين من العرب مثل الفرزدق كانوا يفضلون زوجاتهم السودانيات. ويجعل سكان الجزر الهندية وكذلك القبط جنسا من السودان ويذكر أن إبراهيم الخليل تزوج منهم امرأة ولدت له إسماعيل عليه السلام. ويقول إن الله تعالى لم يجعلهم سودا تشويها لخلقهم، وإنما فعلت بهم ذلك البيئة، ويسلك فيهم من العرب بنى سليم بن منصور وكل من نزل الحرّة لسريان السواد فيهم، ويقول إنه بلغ من أمر تلك الحرّة (حرّة بنى سليم) أن ظباءها ونعامها، وهوامّها وذبابها، وثعالبها وشاءها، وحميرها وخيلها، وطيرها، كلها سود.

ونحس فى حرارة دفاعه عن السودان كأنه يدافع عن أصوله إذا صحّ أن جده كان عبدا أسود. وأكبر الظن أنه أول من أشاد بالسودان فى عصره، وكأنما أصبح لهم شئ من الخطر فى الحياة الاجتماعية العباسية، ولم تمض على وفاته سوى عشر سنوات حتى شبت ثورة الزنج التى تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع.

ولون رابع من كتاباته هو النثر القصصى، إذ كان بارعا فى تصوير الشخصيات والنفوس، ولو أنه عرف الأدب التمثيلى لأسعفته ملكته فى المناظرة والحوار بقصص تمثيلية كثيرة، وهو بحق لا يبارى فى وصف الحركات الجسدية والمشاعر النفسية، ومن خير ما يصوّر هذه النزعة القصصية عنده أقصوصته فى كتابه الحيوان عن «القاضى والذباب» وهى تجرى على هذه الصورة الرائعة (١):

«كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار، لم ير الناس حاكما قط ولا زمّيتا (٢) ولا ركينا (٣)، ولا وقورا حليما ضبط من نفسه، وملك من حركته، مثل الذى ضبط وملك. كان يصلّى الغداة (٤) فى منزله، وهو قريب


(١) الحيوان ٣/ ٣٤٣.
(٢) زميتا: وقورا.
(٣) ركينا: رزينا.
(٤) الغداة: صلاة الضحى النافلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>