«دخل رجل على الشعبى ومعه فى البيت امرأة، فقال لهما: أيكما الشعبى، فأجابه الشعبى: هذه. وسأل سائل الشعبى عن لحم الشيطان هل يجوز أكله؟ فأجابه: نحن نرضى منه بالكفاف. ودخل على الأعمش زميله يعوده فى مرض، ونظر من حوله إلى المنزل وما فيه من أثاث بسيط، ثم قال له: أما أنت فتعرف فى منزلك أنك لست من أهل القريتين (مكة والطائف) عظيما».
وأين هذه النوادر، من نادرة المعلم الأحمق التى رويناها آنفا، والتى مثّل فيها الجاحظ حمقه تمثيلا هزليّا مضحكا؟ . ولا ريب فى أن هذا يرجع إلى اختلاف مزاج الشخصيتين، فالجاحظ أديب فكه بطبعه متحرر من كل قيد، يضحك وتستغرق فى الضحك ولا تستطيع أن تعود منه وتستردّ نفسك إلا بعد ضحك عريض، وابن قتيبة أديب وقور تغلب عليه المحافظة وإن حاول التجرر، ويغلب عليه استشعار الجد، وكأنه إذا هزل أو تندّر خرج عن طبعه، أو قل كأنه إنما كان يريد أن يتشبه بالجاحظ. ومن بقية هذا التشبّه عنده فى باب النوادر والمزاح أن نراه يزعم فى تقديمه لكتاب العيون أنه سيحكى النوادر العامية بلفظها وبما فيها من لحن، ومرّ بنا كلام الجاحظ فى هذا الموضوع وأنه ينبغى أن تظل النادرة العامية بصيغتها ولحّنها وإلا ضاع ما فيها من فكاهة إذا انقلبت ألفاظها من العامية إلى الفصحى وتبدّلت صورتها الفكهة، ويقول ابن قتيبة محتجّا لذلك: «اللّحن إن مرّ بك فى حديث من النوادر فلا يذهبنّ عليك أنا تعمدناه وأردنا منك أن تتعمده، لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه، وشاطر النادرة حلاوتها، وسأمثل لك مثالا، قيل لمزبّد المدينى (المضحك) -وقد أكل طعاما كظّه (أتخه) -قى (قئ) فقال:
ما أقى، أقى نقا (مخّا) ولحم جدى! مرتى طالق لو وجدت هذا قيّا لأكلته. ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها، ولاستبشعها سامعها». والنادرة نفسها التى تمثّل بها ابن قتيبة ثقيلة وتدلّ-هى وما سبقها بوضوح-على أنه من مزاج آخر غير مزاج الجاحظ.
والجاحظ فى الواقع قمة بعيدة المنال فى الأدب العربى كله، ومن الظلم لابن قتيبة أن نزنه به ونقيسه إليه، فقد كان فريدا فى عصره والعصور السابقة جميعها، ويكفى ابن قتيبة مجدا أدبيا أسلوبه الواضح الناصع الذى وصفناه وأنه أخرس إلى الأبد