طبقات المجتمع وخاصة الطبقة العامة. وهو لذلك لا يعدّ كاتبا واقعيّا على نحو ما يعدّ الجاحظ، وإن كان قد حاول أحيانا أن يقتفى أثره. ومرّ بنا أنه بلغ من واقعية الجاحظ أنه لم يكن يجد أى حرج فى أى شئ يخجل منه المتزمتون، حتى العورات كان لا يرى فى ذكرها أى بأس ما دام الكلام يستلزم ذكرها، ويتابعه ابن قتيبة فى تقديمه لعيون الأخبار قائلا:«إنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مرّ بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو وصف فاحشة فلا يحملنّك الخشوع أو التخاشع على أن تصعّر خدّك، وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم فى شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب».
ومع ذلك فإنه لم يبلغ مبلغ الجاحظ فى صراحته، إذ كان فى حقيقته محافظا متزمّنا لا يستطيع أن يترك لنفسه-مثل الجاحظ-العنان فى الصراحة دون أى مواربة.
ومرّ بنا أن الجاحظ كان يجعل خلط الجد بالهزل خاصة قوية من خصائص كتابته، ومع أن ابن قتيبة كان من أهل السنّة المحافظين الذين يأخذون أنفسهم بالجد والوقار نراه فى مقدمته لعيون الأخبار يعلن أنه سيأخذ بهذا المنهج فى كتابته، يقول:
«ولم أخله من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة. . لأروّح بذلك عن القارئ من كدّ الجدّ وإتعاب الحق، فإن الأذن مجّاجة، وللنفس حمضة، والمزح إذا كان حقّا أو مقاربا، ولأحايينه وأوقاته، وأسباب أوجبته مشاكلا، ليس من القبيح ولا من المنكر ولا من الكبائر ولا من الصغائر إن شاء الله. وسينتهى بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روى عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مرّ بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له فاعرف المذهب فيه وما أردنا به».
وإذا انتهينا-كما يقول ابن قتيبة-إلى باب المزاح والفكاهة وهو من أبواب كتاب السؤدد لاحظنا توّاأن فكاهاته ونوادره من طراز آخر غير طراز الجاحظ، فمنها كثير لا يثير ابتساما، وما يثير الابتسام قليل جدّا، ويكفى أن يقول إنها مما روى عن الأشراف والأئمة لنعرف مقدّما أنها نوادر وفكاهات يمسح عليها الوقار وأنه يندر أن ترتسم معها ابتسامة على الشفاء. ونسوق منها هذه النوادر عن الشّعبىّ (من علماء الكوفة) لتعرف طوابعها ومدى ما فيها من المزاح: