كما فى كلمة «أنفعها» و «أحمدها» هذا الأسلوب بعينه نجده عند الجاحظ، وكأن ابن قتيبة تمثّل أسلوبه بجميع خصائصه ونمضى معه فى المقدمة، فنراه يقول:
«وهذه عيون الأخبار نظمتها لمغفل التأدّب تبصرة، ولأهل العلم تذكرة، ولسائس الناس ومسوسهم مؤدّبا، وللملوك مستراحا، وصنّفتها أبوابا، وقرنت الباب بشكله، والخبر بمثله، والكلمة بأختها، ليسهل على المتعلم علمها، وعلى الدارس حفظها، وعلى الناشد طلبها، وهى لقاح عقول العلماء، ونتاج أفكار الحكماء، وزبدة المخض، وحلية الأدب، وثمار طول النظر، والمتخيّر من كلام البلغاء، وفطن الشعراء، وسير الملوك، وآثار السلف».
ولو أننا لم نعرف أن ابن قتيبة هو الذى كتب هذا الكلام، وسئلنا عن صاحبه لأجبنا توّا الجاحظ، إذ نشعر كأنما فصل من أسلوبه بخواصه من الموازنات والمعادلات بين العبارات، بحيث تتقابل الكلمات فى صفوف، وكل كلمة كأنما تمسك بمثيلتها فى العبارة التالية، وكل عبارة كأنما تصافح أختها السابقة، فهى على وتيرتها ومن نفس جنسها ونوعها، وكان هذا يحدث تماسكا شديدا فى أسلوب الجاحظ، لولا ما يداخله أحيانا من استطراد. أما عند ابن قتيبة فلا استطراد ولا خروج من دائرة الفكرة التى يعالجها، وكتابته من هذه الناحية مرتّبة مبوّبة فى أدقّ نسق. ويكفى أن ننظر فى فهرس عيون الأخبار فسنرى الكتاب من كتبه العشرة يفتح، ولكل كتاب فصوله المترابطة معه، وكأنها حلقات فى سلسلة متتابعة وليس فى داخلها ما يوهن العلاقات المنطقية بين الكلام، بل لكأنما الكتاب خيط ممتدّ أحكمت فصوله ونسّقت مواده تنسيقا دقيقا. وابن قتيبة يخطو بالتأليف الأدبى من هذه الناحية بعد الجاحظ خطوات واسعة، إذ لا يسمح لأى فصل داخلى فى كتاب فضلا عن الكتاب نفسه بأى استطراد يخلخل الكلام أو يفقده سياقه. ولكن إذا كان قد تفوّق على الجاحظ من حيث نسق التأليف فإن الجاحظ يتفوق عليه فى وصله الأدب بمجتمعه، على نحو ما صوّرنا من صنيعه فى هذا الجانب. وحقّا نجد عند ابن قتيبة أشعارا معاصرة له، ولكنه لم يحك أخبار الخلفاء والوزراء الذين عاصرهم على نحو ما حكى الجاحظ، ولا حكى أخبار