فحسب، وشاع ذلك على ألسن العرب وعلمائهم منذ أواخر القرن الثالث الهجرى، مصوّرين بذلك بواعثهم وحقائقهم النفسية.
ولا نغلو إذا قلنا إن من أهم الأسباب فى أن كتاب عيون الأخبار أخذ هذه المكانة الممتازة أسلوب ابن قتيبة فيه، فإن كل هذه المواد الثقافية التى نسّقها سبكها فى أسلوب أدبى رائع، أسلوب يمتاز بوضوحه واصطفاء ألفاظه والمزاوجة بينها على طريقة الجاحظ أحيانا، وأحيانا يسترسل دون محاولة الازدواج، ولكن مع العناية باختيار الكلمات والملاءمة بينها بحيث لا تجد فيها أى نشاز ولا أى اضطراب أو انحراف، فقد كانت اللغة مرنة فى يده، وكان لا يتأبّى عليه أى لفظ، ولا تستعصى عليه أى كلمة. وبهذا الأسلوب المتناسق وما يجرى فيه من استواء صنّف كتابه عيون الأخبار جميعه، بحيث غدا كأنه مصبوب فى قوالب متماثلة، قوالب تستريح لها الأذن، وتجد فيها القلوب والعقول متاعا لا ينفد، واقرأ سطوره الأولى فى المقدمة، فإنها تطرد على هذا المنوال:
«الحمد لله الذى يعجز بلاؤه صفة الواصفين، وتفوت آلاؤه عدد العادّين، وتسع رحمته ذنوب المسرفين، والحمد لله الذى لا تحجب عنه دعوة، ولا تخيب لديه طلبة. ولا يضل عنده سعى، الذى رضى عن عظيم النعم بقليل الشكر، وغفر بعقد الندم كبير الذنوب، ومحا بتوبة الساعة خطايا السنين. والحمد لله الذى ابتعث فينا البشير النذير السراج المنير، هاديا إلى رضاه وداعيا إلى محبّته، ودالاّ على سبيل جنّته. ففتح لنا باب رحمته، وأغلق عنا باب سخطه. . . أما بعد فإن لله فى كل نعمة أنعم بها حقّا، وعلى كل بلاء أبلاه زكاة، فزكاة المال الصدقة، وزكاة الشرف التواضع، وزكاة الجاه بذله، وزكاة العلم نشره، وخير العلوم أنفعها، وأنفعها أحمدها مغبّة، وأحمدها مغبّة ما تعلّم وعلّم لله وأريد به وجه الله تعالى».
وهذه القطعة فى مستهلّ الكتاب تصور ضربا من العناية بالألفاظ فيه يشبه عناية الجاحظ، فالجاحظ يعمد إلى الازدواج أو العبارات المتقابلة، وقد يجرى السجع على لسانه فى غير تكلف بالضبط كما نرى الآن عند ابن قتيبة. والعبارات الأخيرة التى ردّد فيها ابن قتيبة كلمة الزكاة، وتعقّب فيها الكلمة الأخيرة وردّدها