والحلول. وممن جاور فى مكة بعده القشيرى المتصوف السنى المتوفى سنة ٤٦٥ وقد سمع بها الحديث، وهو الذى رأب الصدع المتفاقم بين الفقهاء والمتصوفة، فنحّى عن التصوف أفكار الحلول والاتحاد والفناء، وجعل من أول واجبات المتصوف أداء الفروض الدينية.
وجاور بمكة بعده شهاب الدين السّهروردى شيخ الصوفية ببغداد المتوفى سنة ٦٣٢ وبها لقى ابن الفارض المتصوف المصرى المشهور الذى كان يجاور هناك، وطالت مدة مجاورته إلى خمسة عشر عاما طوالا، وهو يطوف المشاعر مبتهلا إلى الله متغنيا بالحب الصوفى الإلهى ناظما أشعاره الرائعة. وإنشاد البوصيرى لميميته أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ذائع مشهور. ومن متفلسفة المتصوفة الذين جاوروا بمكة ابن عربى المتوفى سنة ٦٣٨ وفيها نظم ديوانه الصوفى «ترجمان الأشواق» سنة ٥٩٨ ووضع عليه بمكة أيضا سنة ٦١٠ شرحه المسمى: «الذخائر والأعلاق من شرح ترجمان الأشواق» وجاور بها أيضا من متفلسفة المتصوفة ابن سبعين الأندلسى المتوفى بها سنة ٦٦٩ بعد أن أقام بها سنين كثيرة. ومن ذكرناه من هؤلاء المتصوفة المجاورين بمكة إنما هم قليل من كثير، وأكثر منهم من جاوروا بمكة من الزهاد والعباد وهم لا يحصون كثرة. وكان يتعبد الله معهم أهل المدينتين ومن كان بهما من النساك وإنهم ليفوتون الحصر والاستقصاء، ولنأخذ مثلا كتاب العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين «مكة» فإن من يتصفح تراجمه فى مجلداته الثمانية لا يزال يتنقل فيها من زاهد إلى زاهد ومن عابد إلى عابد.
وإذا ولينا وجوهنا نحو اليمن وجدنا كتاب طبقات فقهاء اليمن لعمر الجعدى لا يزال يتحدث عن زهد كثير من هؤلاء الفقهاء وإعراضهم عن متاع الدنيا الفانى، وحقّا أكثرهم من فقهاء زبيد الشافعية، ولكن الزهد كان يحيى فى كل البيئات وفى كل المدن. وكان كثير من أئمة الزيدية فى صعدة على جانب كبير من الورع والتقوى وكان لذلك أثره فى إمارتهم، فأكبّ فيها كثيرون على النسك والعبادة، وبالمثل كان الرسوليون أو كانت كثرة حكامهم. ولم تكتف اليمن بالزهد، فقد عرفت التصوف السنى وطرقه من شاذلية وجيلانية ورفاعية، واشتهر عندهم صوفى كبير يسمى أحمد بن علوان المتوفى سنة ٦٦٥ للهجرة وله أتباع كثيرون أو بعبارة أدق دراويش يسمونهم فى اليمن المجاذيب، وهم يطوفون فى البلدان اليمنية مرددين أغانى وأناشيد فى مديح قطبهم الربانى، ويبدو أنه كان من كبار أتباع الطريقة الرفاعية العراقية التى شاعت منذ أواسط القرن السادس، يدل على ذلك ما يرى عند أتباعه إلى اليوم من احتمال الآلام الجسمانية، مصورين بذلك مقدرتهم الخارقة. ومرّ بنا فى حديثنا عن المجتمع اليمنى والغناء فيه أنهم كانوا يتغنون هناك بمقطوعة