العلمية لما يحيط بها من أسوار الصحراء، فقد كانت قراها لا تخلو من بعض المعلمين والوعاظ، وكانت تتلى فيها كتب الشريعة وأيضا كتب العربية بأخرة. وكانت القبيلة النجدية بمجرد أن تتحول قليلا أو كثيرا من البداوة إلى التحضر تنهض فيها حركة علمية نشطة، على نحو ما حدث فى بنى مزبد وقبيلتهم بنى أسد حين أسسوا مدينة الحلّة بالقرب من الكوفة واستقروا فيها بعض الاستقرار، وأيضا على نحو ما حدث فى بنى عقيل حين اتخذوا لهم إمارة فى الموصل، فإن القبيلتين جميعا قادتا حركة علمية فى ديارهما، وقد عادتا جميعا إلى نجد وحياة البداوة مع القرن السادس الهجرى. ومن المؤكد أن قرى نجد مثل اليمامة (الرياض فيما بعد) وبريدة وحائل والعيينة والدّرعية لم تخل فى أى عصر من شيوخ يختلف الشباب والشيوخ إليهم لتلقى كتب الفقه والتفسير والحديث النبوى. ومنذ ظهور محمد ابن عبد الوهاب استحالت نجد إلى دار كبيرة للدعوة الوهابية ولمدارسة كتب محمد بن عبد الوهاب نفسه وكتب إماميه: أحمد بن حنبل وابن تيمية.
وإذا تركنا نجدا إلى المدينتين المقدستين فى الحجاز: مكة والمدينة وجدنا الحرمين المكى والمدنى يتحولان فى عصر مبكر إلى جامعتين كبيرتين، بحيث يصبحان من أهم المراكز العلمية فى البلاد العربية، لسبب مهم سبق أن عرضنا له فى غير هذا الموضع، وهو أن كثرة كبيرة من العلماء النابهين بالأقطار العربية فى كل عصر كانوا ينزلون مكة ويقيمون فيها سنوات طوالا، وقد يمضون فيها بقية حياتهم، وبالمثل كانوا ينزلون المدينة، غير من كان فيها وفى مكة من علماء الشريعة والعربية. وتفيض كتب التراجم بأسماء هؤلاء العلماء، ويكفى أن تتصفح مثلا كثاب العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين: مكة لترى مبلغ من كان فيها من العلماء من كل صنف، وكان لكل عالم حلقته، فلمقرئ القرآن الكريم حلقته وكذلك للمفسر والمحدث والفقيه وعالم الكلام وعالم العربية وعالم المنطق وعالم الرياضيات وعالم التصوف. وتتعدد الحلقات بتعدد الشيوخ حتى لتعد بالعشرات. وأنشئت بجانب هاتين الجامعتين مدارس، فقد بنى بمكة السلطان نور الدين رأس الدولة الرسولية مدرسة، رتب لها مدرسين وإماما ومؤذنا وطلابا يتعلمون، ووقف عليها أوقافا دارّة. وتعاقب بعده بناء المدارس فى مكة والمدينة، يبنيها بعض السلاطين الرسوليين وبعض الأفراد وبعض سلاطين مصر على نحو ما هو معروف عن مدرسة السلطان قايتباى التى بناها بجوار الحرم المكى ورصد لها أوقافا كثيرة. وعنى العثمانيون بعد استيلائهم على الحرمين ببناء المدارس، من ذلك بناؤهم أربع مدارس بمكة سنة ٩٧٢ لتدريس مذاهب الفقه، وتتكاثر المدارس فى المدينتين المقدستين وتتكاثر الكتاتيب وخاصة منذ القرن الثالث عشر الهجرى.