للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الأعاجم. ولابد أن الأعاجم بمكة كانوا أكثر من سكانها الأصليين فى هذا التاريخ وهو منتصف القرن الأول للهجرة أو قل بعده بنحو ثلاثة عشر عاما، فما بالنا فى هذا العصر؟ إن المعقول الذى يتفق مع حقائق الأشياء أن تكون نسبة الأعاجم إلى العرب فى المدينتين المقدستين زادت زيادة كبيرة، وهى زيادة أعدت فى هذا العصر لشيوع لغة عامية متداولة على ألسنة العامة، لغة تكثر فيها الألفاظ الأعجمية الدخيلة، ويكثر فيها التحريف فى مقاطع الكلمات ونبراتها. وعلى الرغم من ظهور هذه اللغة العامية كانت لا تزال الفصحى حية بفضل القرآن الكريم وحفظه واستظهاره، وكان هناك أساتذة كثيرون للعربية يعلمونها الناس، وكان الحرمان جامعتين كبيرتين تدرس فيهما جميع مواد الثقافتين الإسلامية والعربية، وكان وراءهما مدارس وكتاتيب، وكل ذلك عمل على أن تظل العربية مزدهرة، ويظل كثيرون ينظمون الشعر العربى الفصيح.

ولم تكن العناصر الأجنبية فى اليمن كثيرة. ومع ذلك كان ينزلها الأحباش والإفريقيون بكثرة، ومرّ بنا أن الأحباش كونوا لأنفسهم فى حقبة إمارة فى زبيد، وكان ينزل فى عدن قليلون من الهنود الذين كانوا يتجرون مع اليمنيين، ويبدو أن العناصر الإفريقية-وهى الكثيرة-كانت تتعرب سريعا. وليس معنى ذلك أنه لم تتكون فى اليمن على مر الزمن لغة عامية، ولكن معناه أن هذه اللغة هناك تأخرت بالقياس إلى مكة والمدينة، حتى القرن السادس الهجرى على الأقل فى بعض أنحائها، فعمارة اليمنى المتوفى سنة ٥٦٩ للهجرة يحكى فى كتاب المفيد فى أخبار زبيد أنه حين دخل من تهامة اليمن إلى مدينة زبيد فى سنة ٥٣٠ ليطلب الفقه وهو دون العشرين من عمره تعجب الفقهاء فى جميع المدارس التى ألمّ بها فى تلك البلدة من أنه لا يلحن فى شئ من الكلام، ومن قوله: «وجبلا عكاد فوق (قرية) الزرائب (موطنه) أهلهما باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم ولم تتغير لغتهم. .

ولما زارنى والدى وسبعة من إخوتى فى زبيد تحدّثوا مع الفقهاء فلا والله ما لحن واحد منهم لحنة واحدة أثبتوها عليه» (١). ويتضح من كلام عمارة أن المدن اليمنية مثل زبيد كان أهلها يلحنون فى لغتهم اليومية منذ القرن السادس الهجرى، أما تهامة والبوادى وأهل الجبال فكانوا لا يزالون ينطقون بالفصحى نطقا سليما. ويبدو أن أنحاء كثيرة من اليمن ظلت إلى عصور متأخرة تلفظ العربية لفظا صحيحا، بل يقال إنه لا يزال إلى اليوم من يتحدثون بها فى بعض تلك الأنحاء حديثا غير ملحون، إذ يقول صاحب المخلاف السليمانى إن الفصحى لا تزال صحيحة لم تتغير فى هذا المخلاف الذى يطلق عليه الآن اسم عسير، وقد ضمّ إلى


(١) المفيد فى أخيار زبيد ص ٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>