للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا أمّ عمرو أجمعت فاستقلّت ... وما ودّعت جيرانها إذ تولّت

فإنه يقصّ علينا بعد غزلها الطريف قصة غزوة له مع بعض رفاقه من الصعاليك، وهو لا يسردها فى إجمال، بل يسرد تفاصيلها، إذ يذكر أنهم أعدّوا العدّة للغزو والسلب، يحملون قسيّهم الحمر، وقد خرجوا من واديين: مشعل والجبا راجلين، وقد حمل زادهم تأبط شرّا الصعلوك المشهور، وكان يقتّر عليهم فى الطعام خشية أن تطول بهم الغزوة فيهلكوا جوعا. ويصف لنا الشنفرى جعبة السهام التى كانت معهم، وكيف أنهم كانوا يحملون حساما صارما، بل سيوفا قاطعة كأنها قطع الماء فى الغدير لمعانا، بل كأنها أذناب البقر الصغير تحركه، وقد نهلت وعلّت من دماء محرم ساق هديه إلى الكعبة، فقتلوه دون غايته وأخذوا ما معه، كما قتلوا بعض من كانوا يرافقونه، ومن لم يقتل أخذوه أسيرا. وينهى القصة مفتخرا بشجاعته وأنه لا يرهب الموت.

ويكثر الصعاليك من قصّ مثل هذه المغامرة، ويلقانا فى حماسياتهم كثير من وصف معاركهم، وقد يحاولون سردها، وهو سرد تتمشى فيه الروح القصصية على نحو ما تمثّل ذلك معلقة عمرو بن كلثوم وقصائد بشر بن أبى خازم فى المفضليات، إذ يتحدث فيها حديثا مفصلا عن يومى النّسار والجفار، فالقصص يتخلل شعرهم، وقد أفردوا له فى مطوّلاتهم قطعة وصف الحيوان الوحشى. ونراه ماثلا فى غزلهم على نحو ما مر بنا فى غزلية المنخّل اليشكرى، وإنما تمثلنا بقطعة منها، وهو ماثل فى غزل المرقّش الأصغر مما رواه صاحب المفضليات. فإذا قلنا بعد ذلك كله إن معانيهم كان يسودها فى بعض جوانبها ضرب من الروح القصصية لم نكن مبالغين، وهى روح لم تتسع عندهم، فقد أضعفتها حركتهم وميلهم إلى السرعة والإيجاز. وبذلك لم يظهر عندهم ضرب من ضروب الشعر القصصى، فقد ظل شعرهم غنائيّا ذاتيّا، يتغنى فيه الشاعر بأهوائه وعواطفه، غير محاول صنع قصة، يجمع لها الأشخاص والمقومات القصصية، ويرتبها ترتيبا دقيقا، فإن شيئا من ذلك لم يخطر بباله، إذ كان مشغولا بنفسه، لا يهمه إلا أن يتغنى بها وممشاعره.

<<  <  ج: ص:  >  >>