وهذه الحركة فى حياتهم التى تعنى عدم الثبات والاستقرار، وبالتالى تعنى عدم التوقف عند شئ وإطالة النظر فيه هى التى جعلت معانيهم سريعة. أو على الأقل كانت من أهم البواعث على سرعتها. فالشاعر لا يقف طويلا عند المعنى الذى يلم به بل لا يكاد يمسه حتى يتركه إلى معنى آخر. فحياته لا تثبت ولا تستقر. وهو كذلك فى معانيه لا يثبت ولا يستقر، بل ينتقل من معنى إلى معنى فى خفة وسرعة شديدة. ومن ثم غلب عليه الإيجاز. فهو لا يعرف الإطناب ولا ما يتصل به من هدوء وسكون. ولعل هذا هو الذى جعل البيت فى قصائدهم وحدة معنوية قائمة بنفسها. وتتألف القصيدة من طائفة من الأبيات أو البيوت المستقلة التى يكتفى فيها كل بيت غالبا بنفسه. غير متوقف على ما يسبقه ولا على ما يلحقه إلا نادرا.
وربما كان هذا هو السبب الحقيقى فى أن القصيدة الطويلة لا تلم بموضوع واحد يرتبط به الشاعر. بل تجمع طائفة من الموضوعات والعواطف لا تظهر بينها صلة ولا رابطة واضحة. وكأنها مجموعة من الخواطر يجمع بينها الوزن والقافية وتلك هى كل روابطها، أما بعد ذلك فهى مفككة، لأن صاحبها لا يطيل المكث عند عاطفة بعينها أو عند موضوع بعينه. ومن أجل ذلك زعم بعض النقاد أن الاستطراد أساس فى الشعر الجاهلى. ومن حقنا أن نعطيه اسما جديدا مشتقا من حياته، وهو التنقل السريع.
وما أشبه القصيدة عندهم بفضائهم الواسع الذى يضم أشياء متباعدة لا تتلاصق، فهذا الفضاء الرحب الطليق المترامى من حولهم فى غير حدود هو الذى أملى عليهم صورة قصيدتهم. فتوالت الموضوعات فيها جنبا إلى جنب بدون نسق ولا نظام ولا محاولة لتوجيه فكرى. إنما هى موضوعات أو أشكال متجاورة يأخذ بعضها برقاب بعض فى انطلاق غريب كانطلاق حياة الشاعر فى هذا الفضاء الصحراوى الواسع الذى لا يكاد يتناهى ولا يكاد يحد، والذى تتراءى فيه الأشياء متناثرة غير متجاورة.
على أن هذه الحركة قد أتاحت لشعرهم ضربا من الروح القصصية، لا نراه ماثلا فى وصفهم للحيوان الوحشى فحسب، بل نراه أيضا فى وصف الصعاليك لمغامراتهم على نحو ما تعرض علينا ذلك تائية الشنفرى التى أنشدها المفضّل الضّبى والتى يستهلها بقوله (١):