وإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ومعنى ذلك أن ضيق الدائرة فى معانيهم لم يحل بينهم وبين النفوذ منها إلى دقائق كثيرة، فقد تحولوا يولدونها ويستنبطون منها كثيرا من الخواطر والصور الطريفة.
وملاحظة ثانية هى أنهم لم يعرضوا علينا معانيهم الحسية جامدة، بحيث تنشر الملل فى نفوسنا، فقد أشاعوا فيها الحركة، وبذلك بثّوا فيها كثيرا من الحيوية، وما من شك فى أن هذه الحركة مشتقة من حياتهم التى لم تكن تعرف الثبات والاستقرار، فهم دائما راحلون وراء الغيث ومساقط الكلأ، ومن ثمّ كانوا إذا وصفوا الحيوان وصفوه متحركا لا واقفا جامدا، وارجع إلى وصف طرفة لناقته فستجده يصفها وهى سائرة به فى طريق إلى غاية تصبو إليها نفسه، يقول:
أمون كألواح الإران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد (١)
وهو يشبه الطريق بكساء مخطط، يجد فيه جمالا، كما يجد فيها روعة وبهاء، فيستمر فى وصفها وكأنه تدلّه بها حبّا، فهو لا يترك شيئا دون أن يقيده، وكأنه يصنع لها تمثالا يريد أن يحفره حفرا فى أذهان العرب الذين كانوا يعجبون بنوقهم ويودون لو أتيح لهم من ينصبها لهم تمثالا بديعا. وعلى هذا النحو كانوا يصفون خيولهم وكانوا ينتقلون منها ومن وصف النوق إلى وصف النعام وبقر الوحش وثورها والأتن وحمارها ويصورونها لنا وهى تجرى فى الصحراء تطلب الماء، والصائد إما فى طريقها بكلابه أو على الماء مستترا منها، وما تلبث أن تنشب معركة هائلة لا تقل عن معاركهم هولا.
وطبيعى أن يفيض هذا الجزء من قصائدهم بحركة واسعة، فالحركة أساسه، وقد يدخلون هذه الحركة فى المقدمة نفسها، فالشاعر لا يكتفى بالوقوف بالأطلال وبكاء الديار، بل كثيرا ما يصور ظعن حبيبته وصواحبها فى القافلة، وقد خرجت تطلب مرعى جديدا، فلا تزال متنقلة من موضع إلى موضع وعين الشاعر بإزائها نسجل هذه الرحلة الدائبة تسجيلا بديعا.
(١) أمون: الموثقة الحلق، والإران: تابوت الموتى ونساتها: زجرنها، اللاحب: الطريق البين الواضح الذى أثر فيه المشى. البرجد: كساء مخطط شبه به طرائق الطريق وما فيه من تعاريج وخطوط وآثار.