للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

توضيحا مفصلا كيف أن هذا الشعر الحمينى أو العامى اليمنى يرتفع فى لهجته عن اللغة اليمنية العامية ويهبط فى الوقت نفسه درجات عن اللغة الفصحى. وهو بذلك يعدّ فرعا كبيرا من شجرة الشعر النبطى الذى أخذ يشيع فى الجزيرة العربية منذ القرن الثامن الهجرى، بل لعله أخذ يشيع قبل ذلك بقرن أو يزيد. وهو شعر يلقانا فى كل أنحاء الجزيرة لهذا العصر، نلقاه فى الحجاز وحضرموت وفى عمان والبحرين ونجده جنوبا وشمالا.

وجميعه شعر يعلو درجات فوق العامية لكل تلك الأقاليم ويهبط درجات عن الفصحى، شعر بلغة بين العامية والفصحى، ويسمونه باسم الشعر النبطى، وهو كله غير معرب، وكأنه يحلّ فى الجزيرة محل الشعر الجاهلى فيها قديما، فقد كان شعر جميع القبائل تشارك فيه، وكانت لها لهجاتها المحلية الخاصة، وكأن الموقف فى هذا الشعر يتعاكس مع ما كان فى الجاهلية، فالجاهليون كانوا يحافظون على النظم بالفصحى وألحان عروضها وأنغامه ولم يكونوا ينفكّون عنها أبدا، مع أنها ليست لغتهم اليومية تماما. وشعراء الجزيرة مع هذا الشعر النبطى يريدون أن يقتربوا من لغتهم اليومية، فيترك نفر منهم النظم بالفصحى ويتخذ هذه اللغة دنوّا من قبيلته ولغتها العامية، ومع ذلك يظلون يرفدونه بالعناصر البيانية والبديعية للشعر الفصيح، وكأنما فى دخائلهم إحساس أن الشعر ينبغى أن يظل مرتفعا قليلا أو كثيرا عن اللغة العامية اليومية، وهو ما جعلهم ينفذون إلى لغتهم النبطية المستحدثة.

ومهما يكن فإن هذا الشعر العامى أو قل الحمينى اليمنى لم تعل كفّته يوما على الشعر الفصيح الذى ظل صاحب الصولجان وظل له ازدهاره فى اليمن إلى اليوم. وما يصدق على اليمن يصدق على حضرموت، فقد كان فيها شعراء ينظمون الشعر الحمينى العامى، ولكن ظلت للشعر الفصيح السيطرة حتى على من ينظمون الشعر الحمينى ونمثّل لذلك بأبى بكر العيدروس الحضرمى المتوفى سنة ٩١٤ فإن له شعرا وأغانى حمينيّة عامية ولكن شعره الفصيح هو الذى ذاع وشاع أو قل هو الذى غلب عليه، كما يصور ذلك ديوانه: «محجة السالك وحجة الناسك». على أن شعره الحمينى يقترب من الفصحى اقترابا شديدا.

وكانت تنزل عمان عناصر أجنبية إفريقية وهندية وإيرانية؛ ومما هيأ للأخيرة النزول كثيرا أن حاكم هرمز الإيرانية أو قل حكامها كانوا يغيرون من حين إلى حين على عمان، وكانت أحيانا تتبعهم، فكثر نزول الإيرانيين بها، وكثرت لذلك الكلمات الإيرانية الدخيلة فى لغة العمانيين اليومية، وطبيعى أن يتبع ذلك تغيرات فى الألفاظ العربية ذاتها فى بعض مقاطعها وبعض ضغوطها ونبراتها، لذلك كان ابن بطوطة محقا حين زار عمان ولاحظ على أهلها أن «كلامهم ليس بالفصيح مع أنهم عرب، وكل كلمة يتكلمون بها يصلونها بلا فيقولون مثلا لا تأكل،

<<  <  ج: ص:  >  >>