للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى تفككها واختلاف عواطفها، فقد كان الشاعر يصنعها فى أزمنة مختلفة. وأغلب الظن أنه كان إذا صنع قطعة عرضها على بعض شعراء قبيلته وبعض من يلزمه من رواته، فكانوا يروونها بصورة، وما يلبث أن يعيد فيها النظر فيبدّل فى بعض أبياتها، يبدل كلمة بكلمة، وقد يحذف بيتا. ومعنى ذلك أن صناعة المطولات أعدّت منذ العصر الجاهلى لاختلاف الرواية فيها بسبب ما كان يدخله صاحبها عليها من تعديل وتنقيح. وفى أسماء شعرائهم وألقابهم ما يدل على البراعة فى هذا التنقيح وما يطوى فيه من تجويد، فقد لقبوا امرأ القيس بن ربيعة التغلبى بالمهلهل لأنه أول من هلهل ألفاظ الشعر وأرقّها (١) ولقبوا عمرو بن سعد شاعر قيس بن ثعلبة بالمرقّش الأكبر لتحسينه شعره وتنميقه (٢) ولقبوا ابن أخيه ربيعة بن سفيان بالمرقّش الأصغر، كما لقبوا طفيلا بالمحبّر لتزيينه شعره (٣)، ولقبوا علقمة بالفحل لجودة أشعاره (٤) ولقبوا غير شاعر بالنابغة فى شعره، ومن ألقابهم التى تدل على احتفالهم بتنقيح الشعر المثقّب والمتنخّل. وقد استطاعوا حقّا أن يبهروا العصور التالية بما وفّروه لأشعارهم من صقل وتجويد فى اللفظ والصيغة.

ونحن نعرف أن الصيغة فى الشعر صيغة موسيقية، وقد أسلفنا كيف أحكموا هذه الصيغة، فقد كان الشاعر يتقيد فى قصيدته بالنغمة الأولى، وما زالوا يصفّون فى نغم القصيدة، حتى استوى استواء كاملا، سواء من حيث اتحاد النغم أو اتحاد القوافى وحركاتها، وبرعوا فى تجزئة الأوزان حتى يودعوا شعرهم كل ما يمكن من عذوبة وحلاوة موسيقية على نحو ما نلاحظ فى غزلية المتنخل اليشكرى السابقة.

وحقّا هو فى جمهوره جزل، ولكنها جزالة تستوفى حظوظا من الجمال الفنى، ولذلك ظلت ماثلة فى شعرنا العربى عند شعرائه الممتازين إلى عصورنا الحديثة. واقرأ فى حوليّات زهير وقصائده المطولة وفى غيره من المبرزين أمثال النابغة وعلقمة الفحل والمرقشين والأعشى وطرفة والمتلمس وعنترة ودريد بن الصّمّة وسلامة بن جندل والحادرة والمثقب العبدى فستجدك أمام قصائد باهرة، قد أحكمت صياغتها وضبطت أدق ضبط، وسنعرض قطعا منها فى حديثنا عن الشعراء، لنصور براعتهم


(١) أغانى (طبعة دار الكتب) ٥/ ٥٧.
(٢) انظر المفضليات (طبعة لايل) ١/ ٤١٠، ٤٨٥
(٣) المفضليات ١/ ٤١٠.
(٤) أغانى (طبعة الساسى) ٢١/ ١١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>