للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يملأ قلوب العشاق فى البوادى فتنة وإغراء وصبابة، ويذيبها أسى وحسرة، فتذكر العهود والأطلال والربوع وأكناف الحمى، وقد غابت الأقمار وأظلمت الدنيا، وعم المحبين اليأس وتعمقهم الحزن. وقد يجعل الستالى المقدمة لقاء بهيجا على شاكلة قوله:

قصرن الخطا وهززن الغصونا ... ورقرقن تحت النّقاب العيونا

ووشّين بالتّبر بيض التراقى ... وغشّين سود الفروع المتونا

وأقبلن يخطرن مشى الهوينى ... ويبدين من كل حسن فنونا

فلما عرضن لنا سافرات ... أعدن الهوى وبعثن الشّجونا

والأبيات تصور فرحة الستالى باللقاء وبرؤية صاحبته تسير وسط صواحبها، وقد ترقرقت عيونهن بالدموع ولكن دموع الابتهاج وإنهن ليبدين زينتهن، ويخطرن دلالا، ويسفرن عن وجوههن، فتتلألأ الدنيا بجمالهن من حول الستالى، ويعود الحب كما كان فتنة لا يستطيع إفلاتا منه ولا خلاصا. وللستالى خمريات، يجمع فيها بين وصف الرياض والغزل ونعت الخمر والغناء من مثل قوله:

هات اسقنى الرّاح فى راووقها عللا ... وعاطنى فى الحديث اللهو والغزلا

أما ترى نفحات الصيف قد نشرت ... من النبات على وجه الثّرى حللا

والروض يختال فى زهر البهاء وقد ... غدا الثّرى بفنون الوشى مشتملا

وشادن يتهادى فى الصّبا غيدا ... ميس القضيب تثنّى ثمّت اعتدلا (١)

يسعى علينا بنور فى زجاجته ... لولا حدوث مزاج الماء لاشتعلا

وقينة أنطقت صوت الكران وقد ... غنّت بسيطا على الأوتار أو رملا (٢)

والشّرب قد مزجوا صفوا خلائقهم ... كما مزجت بماء المزنة العسلا

ونحس بروح أبى نواس تطلّ علينا من خلال هذه الخمرية التى تصور مجلس أنس فى بستان وساقية تتثنى جمالا، تسعى على الشّرب بدنّ الخمر أو دنانها، وقينة تشدّ أوتار العود وتغنى عليه ألوانا من الغناء، وكأننا فى مجلس من مجالس أبى نواس التى كانت تزخر باللهو والقصف. وهذا الجانب فى ديوان الشاعر يلتقى بجانب آخر من الدعوة إلى الزهد ورفض متاع الحياة، ويتضح ذلك فى مراثيه إذ يتحدث فيها عن الحياة والموت وأن الدنيا ومتاعها إلى فناء، وله ميمية كلها ثناء على الله وآلائه، وقد ختمها بدعوة حارة إلى الانصراف عن الدنيا ومتاعها الزائل.


(١) غيدا: لينا وتثنيا. ميس: تمايل.
(٢) الكران: من أدوات الطرب ويسمى به العود والصنج. والبسيط والرمل من أوزان الشعر.

<<  <  ج: ص:  >  >>