للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويطول تعثره فيها، وقد انقطعت به الحيل فى الخلاص فيفزع إلى دموعه، على شاكلة قوله:

يا ظبى وادى الأجرع ... رفقا بصبّ مولع

يبكى أسى وصبابة ... بكآبة وتوجّع

ودموعه فوق المحا ... جر كالغيوث الهمّع (١)

ويقول من وجد ومن ... كمد بقلب موجع

حيّا المرابع والرّبا ... غيث كفائض أدمعى

يهمى على تلك الدّيا ... ر بوابل لا يقلع

فهو يبكى بدموع غزار لا تزال تنهمر كأنها أمطار، ولا يزال يلتاع لوعات شديدة، كلها أوجاع وأوصاب وآلام. ويكثر غزله الرقيق من مثل قوله:

ولى من العرب ظبى ما رأى بصرى ... شبها له فى الورى بدوا ولا حضرا

الورد فى خدّه المحمرّ من خجل ... يدعو إلى حسنه الفتّان من نظرا

كم ليلة زارنى فيها على وجل ... مستعجلا خائفا مستوفزا حذرا (٢)

وتصويره لخوف المحبوبة فى البيت الأخير من أن يراها أحد معه رائع، فهى عجلة حذرة لا تكاد تطمئن، واختار بدقة شاعريته كلمة «مستوفزا» ليصور فيها هذه الحركة النفسية، فكأنها دائما مستوفزة تتهيأ لفراقه وتتأهب لوداعه. وله بعض خمريات طريفة يجمع فيها بين الروض والخمر والغناء والصّحب، مصورا بذلك بعض مجالس أنسه كقوله:

تلاعبت مرحا فى روضها القضب ... كشاربى خندريس هزّهم طرب (٣)

قم يا نديمى فقد نادى الهزاز إلى ... صهبا مشعشعة تجلى بها الكرب (٤)

يديرها رشأ كالشمس طلعته ... وكفّه بدم الصّهباء مختضب

فى روضة أخذت بالزّهر زخرفها ... وازّيّنت وتجلّت كلّها عجب

ولم يكن اللهو غالبا على حياته، فمثل هذه الخمرية وميض كان يلمع حينا فى سمائها وسرعان ما يخبو، وقد أمضى شطرا كبيرا من حياته بائسا يشكو الفاقة قبل اتصاله بعمر بن بدر أميره، ولذلك نجد عنده قطعا يشكو فيها من حظه العاثر، نذكر منها قوله:


(١) الهمع: الهاطلة السائلة.
(٢) مستوفزا: متحفزا للقيام.
(٣) القضب: الأغصان. الخندريس: الخمر.
(٤) الهزار: طائر صغير الحجم حسن الصوت. الصهباء: الخمر. المشعشعة: الممزوجة بالماء.

<<  <  ج: ص:  >  >>