لا شئ من حلّ وعقد فى الورى ... إلا إلى تدبيره مردود
ملك أغاث المسلمين وحاطهم ... منه وجود فى الزمان وجود
وهو يردّد ما يزعمه الشيعة من أن الإمامة فى الأمة إنما تورث بالنص عن الإمام السابق، فهى ليست مفوضة للأمة، بل هى من حق الأئمة وحدهم يتوارثونها خالفا عن سالف. ويشير عمارة فى البيت الثانى إلى نظرية العقل الفعال التى يمثّلها الإمام والتى تجعله-كما مر بنا عند السلطان الخطاب-يدبّر الكون وشئون الورى وكل ما يتصل بها من حلّ وعقد. أما البيت الثالث فيصور فيه فكرة الفيض الأفلاطونى المعروفة عند الإسماعيليين والتى تجعل الأئمة مائلين فى كل وجود إنسانى. ويقول فى مديح العاضد من قصيدة طويلة:
كم آية رويت لكم أسرارها ... آل الوصىّ وللورى إعلانها
فكأنما تأويلكم أرواحها ... وكأنما تفسيركم أبدانها
وكأنّ علم الكائنات وديعة ... مخزونة وصدوركم خزّانها
وهو هنا يردّد ما يؤمن به الشيعة الإسماعيلية الفاطميون من أن للقرآن الكريم وآياته ظاهرا وباطنا، والباطن لا يعلمه إلا الأئمة، فهم الذين يعلمون أسرار الآيات القرآنية وحدهم دون غيرهم، وهم الذين يعلمون تفسيرها وتأويلها علما حقيقيا. وليس ذلك فحسب، بل هم يعلمون كل علم، وما صدورهم إلا خزانات لهذا العلم: علم الحاضر وعلم الغيب. وكل هذه شواهد بينة على أن عمارة تحول فى مصر فاطميا إسماعيليا. وكان حزنه لا يحدّ ولا يوصف حين دالت دولة الفاطميين، وبثّ هذا الحزن الغاضب غضبا عنيفا فى لامية له مشهورة استهلّها بقوله:
رميت-يا دهر-كفّ المجد بالشّلل ... وجيده بعد حسن الحلى بالعطل
هدّمت قاعدة المعروف عن عجل ... سقيت مهلا أما تمشى على مهل
يا عاذلى فى هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت فى عذلى
وهو فى هذا الاستهلال ملتاع لوعة شديدة على زوال الدولة الفاطمية، وإنه ليسبّ الدهر الذى أطاح بها ويدعو عليه أن يسقى المهل شراب أهل الجحيم. ويدعو عذّاله على حب الأئمة الفاطميين أن يظلوا فى عذلهم ولومهم وكأنه يجد فيه شفاء لغليل نفسه. ويمضى فيدعو رفيقه أن يبكى معه على ساحة القصرين لا على ساحات معارك صفين وواقعة الجمل، وكأن النكبة هنا أكثر أسى وفجيعة، ويقول إن الجرح الذى أصاب فؤاده بزوال الدولة الفاطمية لا يندمل، وما يلبث أن يقول عجبا ينزل كل هذا بالفاطميين لا من الصليبيين ولكن من إخوان لهم فى الدين، ويقول: