براه إلهنا برّا صفيّا ... ولم يخلقه جبّارا عصيّا
سرى سرّ النبوّة فيه حتى ... حكى عن جدّه خلقا سنيّا
حوى علم الذين مضوا جميعا ... وأصبح وارثا لهم وليّا
تأزّر وارتدى بالحكم كهلا ... وأوتى حكم خالقه صبيّا
وواضح أن قوافى الأبيات مأخوذة من فواصل سورة مريم، وأن الشاعر لم يكتف بذلك، بل حاول أن يسبغ على شرف الدين بعض ما جاء فى السورة من نعوت للنبى يحيى، وقارن بين البيت الثانى وقوله تعالى فى نعت يحيى بن زكريا: {(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا)}. ويشير الشاعر فى البيت الثالث إلى فكرة ميراث النبوة التى جاءت فى السورة على لسان زكريا إذ يدعو ربه أن يهبه غلاما: {(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)}. ويكمل الفكرة فى البيت الرابع. ولا يلبث أن يسلك فى البيت الأخيرة نهاية الآية الكريمة: {(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)}.
وهو غلو واضح. ويمضى فى القصيدة قائلا:
وقل يا بن الأكارم من قريش ... وأحسنهم-إذا ذكروا-نديّا
ومن دنت الملوك له وذلّت ... وخرّت من مهابته جثيّا
بفضلك تتّقى نوب الليالى ... فكن فى النائبات بنا حفيّا
والشطر الثانى فى البيت الأول مستمد من قوله تعالى فى السورة: {(أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)} أى مجلسا وجماعة. والبيت الثانى يستضئ بالفاصلة (جثيّا) الواردة فى السورة أى تخرّ الملوك على ركبها ولا تستطيع الحراك هيبة له وإجلالا. وقافية البيت الثالث مأخوذة من قول إبراهيم فى السورة لأبيه: {(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا)} أى رءوفا يرعانى. ويختم الشاعر القصيدة بالدعاء لشرف الدين والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
عليك سلام ربك ما تغنّت ... حمام الأيك صبحا أو عشيّا
وصلىّ الله خالقنا على من ... تخيّره نبيّا هاشميا
محمد المشفّع فى البرايا ... صلاة تبلغ الأمد القصيّا
وتكثر هذه الخاتمة عند شعراء الجزيرة وخاصة فى القرون الأخيرة من هذا العصر، وكثيرا ما يضمنونها كما صنع الشاعر الإشارة إلى شفاعة رسول الله لأمته يوم القيامة. ولهذه القصيدة وسابقتها مقدمتان غزليتان بديعتان، ومن قوله فى مقدمة القصيدة الأولى:
لمقلتى فى خدّه جنّة ... محفوفة بالنّار ذات الوقود