عنده بعض أحاديث عن الفناء وعن المحو والصّحو، ولكن لا تظن أنه يستغرق فى ذلك استغراق ابن عربى، أو حتى استغراق ابن الفارض، كأنه يلمّ بظاهر من ذلك دون توغل فيه، كما يلم بالخمر ونشوتها على طريقة الصوفيين، ولكن دون أن تسلبه حواسه على شاكلة قوله:
أنعشتنى خمرة للغير تمحو ... فاعتلالى بالهوى القدسىّ شطح
عاذلى كن عاذرى أو عاذلى ... أنا من خمر التجلّى لست أصحو
أنا فان والفنا عين البقا ... فى رشا من دونه سيف ورمح
هام شخص القلب من خمر الفنا ... فهو من تلك الحميّا ليس يصحو
أنا فى محو وصحو دائما ... حيث لى فى مجمع البحرين سبح
وكل ما يمكن أن يقال عن تصوفه هو أن فكرة الفناء الصوفية وما يتصل بها من فكرة المحو حتى لتزول فى المتصوف جميع الصفات البشرية ليكون على استعداد لشهود ربه، وأيضا فكرة الصحو وأنه يظل له القرب والشهود للذات العلية دون سكر، كل ذلك نجد ظاهرا منه عند العيدروس، ولكن لا نجد حرارة ولا استغراقا فى لذة الفناء المسكرة كما يقول المتصوفة، ومن خير غزلياته غزلية يشدو بها اليمنيون ويتغنون بها إلى اليوم يستهلها بقوله:
شرح الدمع على متن الخدود ... ما ألاقيه من الظّبى الشّرود
يا لقومى من غزال صادنى ... وعجيب رشأ صاد الأسود
أهيف القامة فى وجنته ... جنّة الخلد ونيران الخلود
غصن حسن قد سقى ماء البها ... مثمرا-أضحى برمّان النّهود
وواضح أن هذا الغزل الإلهى لا يفترق فى شئ عن غزل الحب الإنسانى، حتى ليؤمن من يقرؤه لأول وهلة أنه غزل فى فتاة حقيقية صبت قلب العيدروس بجمالها المغرى. وكأنى به يتأثر فى هذا الغزل المادى بديوان ابن عربى: «ترجمان الأشواق» الذى يكتظ بالوصف الحسى لجمال محبوبته، حتى ليظن قارؤه أنه يتغزل غزلا إنسانيا، وهو إنما يرمز به إلى حبه الربانى. ويمضى العيدروس منشدا:
أيها الظّبى التفت نحو الحشا ... أيها الشمس أزل نار الصدود
عطفة بالقدّ من هذا الجفا ... وأبيك العطف من شأن القدود
كم أرى بارق وعد أومضا ... قد مضى وقت المعنّى فى وعود
وصلاة الله تغشى المصطفى ... ما تلالا البرق من أقصى النّجود
وهو يتمنى لفتة من الظبى الشرود أو قبسا من الشمس الهادية يطفئ غليل ظمئه،