للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويأمل فى عطفة نحوه أو فى وصل طالما رأى بروق وعوده، وكأنه دائما فى هجر وفراق ومطل وبين وإنه ليتوسل إلى ربه ضارعا أن يمنحه القرب والشهود، وإنه ليشكو دائما من الضّنّ بالوصال، يقول:

أتسأل عن عينى لما هى تدمع ... وجسمى نحيل والحشا يتقطّع

ولونى كئيب والفؤاد بحسرة ... ومالى سهير الطّرف والقلب موجع

فما نالنى هذا سوى من فراق من ... له النّور يبدو فى البقاع ويلمع

فهو دائم البكاء، حتى لقد شحب جسمه وضؤل، وحتى لقد تقطّعت أحشاؤه واكتأب لونه والتاع فؤاده، ودائما مسهّد الطرف ساهره، وقلبه مكتظ بالأوجاع واللوعات لهجر محبوبه الذى يملأ العالم بنوره، وهو ما ينى يذكره ويرسل دموعه، لعل محبوبه-كما يقول-يعطف عليه ويخلصه من عذاب الهجر وأوصابه ومن قوله:

ألهيتنى عن جهاتى ... يا راحتى يا حياتى

ما ضرّ يا من سبانى ... لوجدت لى بالتفات

بالله يا من رمانى ... بأسهم صائبات

عطفا على الصّبّ عطفا ... من قبل كأس الممات

وهو يصرّح فى الشطر الأول من هذه الأبيات بأنه لم يعد يشعر بمكانه ولا بما حول مكانه، وكأنما غاب عن وجوده، ونتأهب لكى يتحدث لنا عن وجوده الإنسانى وفنائه فى الوجود الربانى، وكأنما لم يعد له وجود ذاتى، أو كأنه يدخل عالم الفناء الصوفى أو عالم الشهود الإلهى، ولكنه لا يستمر فى بيان ذلك، وكأنه استعار الشطر من ابن عربى وأمثاله، ولم يفكر فى الشهود ولا فى الفناء. ولا نريد أن ننفى بذلك عنه صفة التصوف، فهو متصوف سنى، لا يتعمق فى تصوفه تعمقا من شأنه أن يجعله يتجرد من حواسه ومن وجوده ومن كيانه المادى. وله يائية يعارض بها يائية ابن الفارض يقول فى فواتحها:

صاحبى عرّج على نجد وحىّ ... أهل حىّ لم يكن يحكيه حىّ

وهو إنما يعارض بيائيته ظاهرا من يائية ابن الفارض، فليس عند وجده ولا التياعه ولا مجاهداته فى الوصول إلى مرتبة الشهود ولا شغفه بالجمال المطلق وفيوضاته الإلهية. لم يكن العيدروس يتعمق فى تصوفه هذا التعمق، فتصوفه إنما كان تصوفا سطحيا نجد عنده لغة الصوفية ومصطلحاتهم ولكن دون حرارة ودون وله جارف.

<<  <  ج: ص:  >  >>