للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المدفون، والدفين المخزون. ثم عيّر (١)، فحصل منه أربعة أقداح، فجاءت وفق الاقتراح، واتفق لسوء الحظ حضور الرسول الغرير (٢)، حال بعث من مرقده ذلك الشعير، فكيل له فى الغرائر (٣) على غرّة، وقيل له: خذها، واحذر العود بعد هذه المرّة».

والفكاهة واضحة فى الرسالة، وهى تلسع ولا تجرح ولا تدمى، فكاهة تحمل حينا دعابة وحينا سخرية خفيفة، دون أن تؤذى، وقد أنهاها بقطعة شعرية بديعة. وكانوا يلبسون أحيانا الفكاهة ثياب قضية طريفة كأن نجد يحيى بن إبراهيم الجحّاف يسوق سؤالا (٤) عن صديق عاهده على التعاون، وخاصة حين تبتسم له هو الدنيا، وتعبس فى وجه صديقه، فإنه حينئذ يمد له يد العون ولا يتركه لمحن الدهر تعصف به، غير أن هذا الصديق لم يف بعهده، وإنه ليسأل علماء العدل وقضاة الإحسان وحكام الإنصاف ومشايخ المروءة ما يقولون فى صديقين تغذّيا بلبان المحبة واستظلا بظلال الصداقة جمعتهما أخوة الأدب التى هى أوثق من أخوة النسب، وأقبلت الدنيا على أحدهما وأدبرت عن صاحبه، فتناساه وأهمله، فما حكمه؟ يقول: «فهبت لأحدهما ريح الإقبال، ولمعت له لمعة سعد، وأمطرته سحابة خير. . وبقى الثانى فى ظل العفو وروض العافية. . يسبح من حسن الظن فى غير ماء، ويطير مع طول الأمل بغير جناح. . إن التفت يمنة وجد محنة. أو نظر يسرة رأى حسرة، أو حاول به اللحاق، احتاج إلى البراق. وقد كان يقسم بالله الذى وسعت العباد رحمته، وشملتهم نعمته أنه إذا أثنيت له الوسادة، ولاحظته عين السعادة، وخرج من زاوية الخمول، وطلع نجمه بعد الأفول. . ليبلغنّه من الخيرات ما لا قلب فكّر فيه، ولا لسان نطق به، ولا جارحة تكلّفته ولا عين رأته ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر قط. فافتونا مأجورين مثابين إن شاء الله تعالى: ما الذى يجب فى شريعة المودة، ويسنّ فى دين الفتوة، ويندب فى ملة الوفاء، ويباح فى فقه العرف. .

وهل من توبة تعلمونها لهذا الصاحب». .

والقضية طريفة، وهى قضية اجتماعية، فكم من صديق تعاهد مع صديقه على البر والتعاون، وخاصة حين يرزق السعادة، فإنه لن يترك صديقه يعانى بؤس الحياة ومرارتها،


(١) عيّر: كال من الكيل.
(٢) الغرير: الغر الذى لا تجربة له.
(٣) الغرائر: جمع غرارة، وهى وعاء من الخيش يجعل فيه الشعير ونحوه.
(٤) نشر العرف ٢/ ٨١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>